إنها أوروبا... تلك القارة الباردة التي تحدثنا الآن عن حقوق الإنسان والحريات وتدعونا للتسامح والاقتداء بها في التقدم والتنوير, وهي تحاول أن تخفي خلف نصائحها تاريخا طويلا من العنف والقسوة والقهر الذي مارسته علي الأمم الأخري, وتحاول أن تخفي بمنحها الاقتصادية تاريخا من الممارسات التي امتصت بها دماء العرب لتحقق وأراقتها حتي اختلطت بمياه البحر الأبيض, ولكن ما بين الحين والحين, تحاول الحقيقة أن تعلن عن نفسها فتخفق نبضات في قلوب بعض الأوروبيين, ربما تجري في عروق بعضهم دماء عربية, وربما ورث بعضهم جينات من سلالات العرب الأمجاد, وربما بحث بعضهم عن الحقيقة فوجدها مدفونة بين أغلفة كتب يعلوها التراب فوق أرفف مكتبات منسية في ضواحي المدن الأوروبية المتقدمة. ليكتشف بعض أبناء الجيل الحالي أنهم وقعوا فريسة لتزييف التاريخ وأنهم يحملون إرثا مثقلا بالأكاذيب والجرائم الدموية والكراهية والعنصرية التي يأبي التاريخ أن يدفنها مع من ارتكبوها, ويبكي الأحفاد أخطاء أجدادهم فيحاولون مد أيدي التسامح من جديد والاعتراف بخطايا السابقين للتطهر منها, وهو ما يفعله الآن أعضاء جمعية "غرناطة من أجل التسامح" والذين يبحثون عن استعادة الذاكرة الأندلسية لاسبانيا, وما يتطلبه ذلك من الاعتراف بالجرائم التي ارتكبها الملك فرديناند والملكة إيزابيلا ضد مسلمي أسبانيا بعد استسلام غرناطة والذي تم يوم الجمعة 23 من محرم سنة897 ه الموافق ل25 من نوفمبر سنة1491, وتنازل فيه الملك أبو عبد الله الصغير آخر ملوك بني الأحمر عن عرش غرناطة التي فتحها العرب قبل ذلك الحين بثمانية قرون حين عبر طارق بن زياد بقواته المضيق الفاصل بين المغرب واسبانيا وفتح مدن شبه الجزيرة الآيبرية عام711 ميلادية,92 هجرية. وقد امتد الحكم الإسلامي للأندلس مئات السنين حتي تنازل أبو عبد الله الصغير عن جميع حقوقه وترك غرناطة ولكنه تمسك بحقوق المسلمين في الأندلس "المورسكيين" حيث تضمنت المعاهدة سبعة وستون شرطا كان معظمها لضمان حماية المسلمين وممتلكاتهم وأرواحهم وحسن معاملتهم وعدم إجبارهم علي التنصر أو فرض ضرائب زائدة عليهم, الأمر الذي وافق عليه الملك فرديناند والملكة إيزابيلا حكام قشتالة وضمنا بشرفيهما تنفيذ الشروط, إلا أن الأمر لم يدم طويلا, فما إن استقر لهم الحكم في غرناطة وضمنوا عدم ثورة المسلمين عليهم حتي بدأت محاولات التنصير والتبشير بهدوء في المدن التي تضم المسلمين. وبعد أن فشلت الخطة في تحويل المسلمين عن دينهم بهدوء، بدأ استخدام العنف والترهيب الذي أخذ أشكالا متعددة ومتصاعدة, حيث بدأت الحرب علي الإسلام والمسلمين في اسبانيا بتحويل مسجد الطيبين ومسجد الحمراء إلي كنائس كاثوليكية, وتحويل مسجد غرناطة الكبير إلي كاتدرائية, ليتم إعلان إلغاء كافة بنود الاتفاقية التي وقعت من قبل لتبدأ سلسلة من صور الاضطهاد للمسلمين عموما وبدأت بالمسلمين من أصول مسيحية حيث قررت المحكمة معاملتهم هم وأسرهم وحتي أحفادهم كمرتدين وحاولت فرق التبشير اقناعهم بالتنصر من جديد, وكان السجن مصير من يتمسك بالبقاء علي الإسلام. ظل المسلمون يعانون الاضطهاد والتضييق علي ممارسة شعائرهم حتي أشتعل فتيل الثورة في حي البيازين في نهاية عام1499, حين انتهك أحد أفراد الشرطة حرمة امرأة مسلمة كان أبوها قد اعتنق الإسلام فتم سجنها هي وأبناؤها فثار مسلمو المدينة لتحريرها حتي قتلوا الشرطي وحرروا المرأة ثم أقاموا المتاريس واحتلوا الأبراج ليطالبوا بحرية العقيدة في الوقت الذي استمرت فيه الدولة في انتهاج التنصير القسري الذي حرصت الملكة إيزابيلا بنفسها علي متابعة تنفيذه حتي أنها زارت غرناطة في يوليو1500, وأجبرت المدن والقري علي توقيع مراسيم لاجبار الأهالي علي التنصير مقابل معاملتهم معاملة النصاري القدامي كما تجبرهم علي عدم ارتداء الزي الإسلامي ومنعهم من ذبح حيواناتهم علي الطريقة الإسلامية والتخلي عن اسمائهم الإسلامية والتأكيد علي التزامهم بالتعاليم المسيحية, ولكنها سمحت لهم فقط باستخدام الحمامات التي بناها المسلمون في شتي أنحاء الأندلس لحرصهم علي الاغتسال, في الوقت الذي لم يكن أهل الاندلس يعرفون فيها الحمامات العامة ولا يغتسلون، لدرجة أن الملكة إيزابيلا كانت تفتخر بأنها لم تغتسل في حياتها إلا مرة واحدة ليلة زواجها, ولم يسبق لها أن اغتسلت إلا يوم ولادتها وبعد ذلكيوم وفاتها رغما عنها. لم تتوقف جرائم الملكة إيزابيلا وتابعيها ممن حكموا اسبانيا في حق الإنسانية عند محاكم التفتيش التي أقامتها للقضاء علي المسلمين في إسبانيا ممن كانوا يمارسون شعائرهم سرا بعد تظاهرهم باعتناق المسيحية, بل طالت الجريمة المسيحيين أنفسهم حيث تمت ملاحقة كثير منهم عبر محاكم التفتيش للتأكد من عدم اعتناقهم الإسلام, حتي أن بعضهم كانوا يحرقون أحياء في الميادين العامة ويعانون صنوف التعذيب والقهر, وحين أدركت الدولة المتعصبة وكهنة الكنيسة عدم قدرتهم علي نزع الإسلام من صدور المسلمين قررت نفي كل "المورسكيين" من اسبانيا وترحيلهم جميعا إلي الشام وتركيا وليبيا والمغرب وتونس, واستمرت عملية الإجلاء بين عامي1609 إلي1614 وتم نفي حوالي300 ألف مواطن مسلم رحلوا دون أن يسمح لهم باصطحاب أموالهم وممتلكاتهم. لقد اتسمت الملكة إيزابيلا بعنفها وعنصريتها وكراهيتها الشديدة للمسلمين وللإسلام وأورثت حقدها لمن تبعوها في الحكم من ابنائها, حتي أنها اتحدت مع ملك قشتالة فرناندو وتزوجته من اجل القضاء علي الدولة الإسلامية في الاندلس, وما أن تحقق لها الهدف حتي أمعنت في ابتكار فنون التعذيب والتنكيل بالمسلمين, واجتهدت في محو آثارهم حتي أنها أصدرت قرارا بتحويل كل المساجد إلي كنائس ومصادرة جميع الأوقاف الإسلامية, ومنع استخدام اللغة العربية في البلاد, ولكن تبقي جريمتها الأعظم والتي ارتكبتها في حق الإنسانية جميعها وليس في حق المسلمين فقط, هو ما فعلته نهاية عام1501 م حين صدر مرسوم بحرق جميع الكتب الإسلامية والعربية, فحرقت آلاف الكتب في ساحة الرملة, أكبر ساحات غرناطة. ثم توالت عمليات حرق الكتب في كل مدن اسبانيا حتي وصل عدد ما حرق منها حوالي مليون كتاب. كما صدر قرار بتجريم امتلاك السكان للكتب العربية الإسلامية وتعرض من يقتني مثل هذه الكتب للعقوبة, فاضطر الكثيرون لحرق ما يمتلكونه من كتب, ولم تنج إلا بعض النسخ, حيث يقول المؤرخ والباحث الإسباني إيتشيبيريا في كتابه "جولات في غرناطة ونواحيها" إن عدد الكتب الإسلامية الأندلسية التي تم إحراقها في ساحة الرملة في23 فبراير من عام1502 تتجاوز مليون وخمسة وعشرون ألف كتاب, لكنه أكجد علي أنه لم يتم إحراق كل الكتب الأندلسية في ذلك الوقت, وأنه تم إنقاذ آلاف الكتب التي تم حملها إلي منطقة ألكالا( القلعة) قرب مدريد. كما قال: لقد تم حمل الكتب التي أفلتت من الحرق من غرناطة إلي أمكنة أخري في إسبانيا, في الوقت الذي كانت المدينة في أمس الحاجة للاستفادة من هذه الكتب. ويقول مؤرخون اسبانيون إن الكثير من الكتب التي نجت من الحرق وجدت مكانها في كنائس إسبانيا ليستفيد منها الرهبان, إضافة إلي آلاف الكتب العلمية التي توزعت في مختلف البلدان الأوروبية, والتي لعبت دورا كبيرا في النهضة العلمية والثقافية التي عرفتها أوروبا خلال تلك الفترة. وليس بالغريب أن تظهر مؤخرا جمعيات أهلية تطالب باستعادة الكتب والمؤلفات الإسلامية التي نجت من الحرق بعد سقوط غرناطة, معتبرين أن هذه الكتب حق للإنسانية لأنها خلاصة علوم وأبحاث علماء الأندلس علي مدي مئات السنين التي حكم خلالها العرب المنطقة ونشروا فيها العلم والتنوير الذي انتقل من الأندلس لأوروبا كلها, وكانت هذه العلوم هي أساس الحضارة الأوروبية الحالية بعد عصور ظلام عاشتها أوروبا ما بين حروب أهلية وحروب بينية وتخلف ساد بسبب سيطرة الكنيسة علي الدولة والحكم باسم الإله في الأرض. يري البعض أن حضارة العرب حرقت بالكامل مع تلك الكتب التي حرقت في غرناطة وفي بغداد وفي دمشق وغيرها من المكتبات التي دمرتها الحروب وأشعل الأعداء فيها النيران ليمحوا حضارتنا وذاكرتنا للأبد, تلك المكتبات التي ضمت ملايين الكتب هي خلاصة الفكر الإسلامي المستنير. وفي الوقت الذي أصبح الإسلام فيه متهما بالعنف والوحشية, وفي الوقت الذي نغرق فيه في همومنا ودمائنا, نجد من يطالب بمحو هذا التاريخ وما تبقي من الكتب, وكأننا لم نكتف بما تم حرقه ليطلبنا البعض بأن نشعل بأيدينا النيران فيما تبقي لنا من تراث دون أن نعكف عليه لندرسه وننقحه وننقيه ونضيف له, ونجد في نفس الوقت من بين أبناء غرناطة من يرفعون أصواتهم عالية وينظمون الوقفات ويشعلون الشموع في باب الرملة ليطالبوا بإحياء تراث الأندلس الإسلامي الذي حرقه أجدادهم المسيحيون. ووفقا لتقرير نشر قبل عدة أشهر بموقع "طنجة انتر" أفاد بقيام جمعية أهلية اسبانية تسمي غرناطة من أجل التسامح بالمطالبة باستعادة الذاكرة الأندلسية القديمة عبر استعادة تلك الكتب التي كتبها أبرز المفكرين والعلماء الأندلسيين المسلمين, والتي نجت من عملية الإبادة والحرق في باب الرملة بأوامر من الطاغية إيزابيلا عام1502, ووفقا للموقع: قال خابيير لوبيث خيخون, المتحدث الرسمي للجمعية وأستاذ في جامعة غرناطة, إن عملية الإحراق التي أشرف عليها الكاردينال المسيحي سيسنيروس, تعتبر إبادة حقيقية لأجيال طويلة من البحث والتأليف... إن عملية إحراق هذه الكتب تمت من أجل فرض نسيان شامل ومسح التاريخ الأندلسي من الذاكرة ومن أجل اقتلاع الشعب الأندلسي من جذوره.. فعندما كان اللهب يرتفع في السماء في ساحة باب الرمبلة فإننا كنا نخسر كنزا عظيما. كما اقترحت الجمعية إنشاء مكتبة كبيرة بمدينة غرناطة لتوضع بها الكتب الناجية والتي يوجد معظمها في مكتبة الإسكوريال الشهيرة بالإضافة للكتب الحديثة التي تم تأليفها حول تلك المرحلة فيما بعد. لقد حان الوقت لننفض التراب عن صفحات خالدة من التاريخ ونعيد إحيائه لنذكر العالم الغربي بأن القسوة التي يتهموننا بها ما هي إلا غرسهم الذي غرسوه وتعليمهم الذي حفروه في وجدان الأمم علي مدي قرون مضت, لم ينالهم من العرب والإسلام والمسلمين إلا الثقافة والتعليم والتنوير الذي أخرجهم من عصور الظلام, ولم ينل منهم العرب إلا القتل وسفك الدماء وسلب الثروات والخيرات ثم يعودوا لاتهامنا بأننا وحوش بربرية همجية تمارس القتل والذبح.. تلك الصفحة قرأتها وأنا أتذكر كلمات ومعاني قصيدة غرناطة للشاعر والسياسي والدبلوماسي الراحل نزار قباني والتي حكي خلالها في سطور قليلة تاريخ طويل وعبر فيها عن ألم مرير لايزال يعتمل في نفوس كل من يقرأ التاريخ ويفهم الحاضر ويحلم بمستقبل أفضل للعرب.