يمكننا القول إن ابن خلدون عاش عمرا حقيقيا أطول بكثير من عمره الزمني; إذ إن العمر الحقيقي يقاس بالأعمال, أما العمر الزمني فيقاس بوحدات الزمن. .إن ابن خلدون لم يترك علما إلا وتناول منه جزءا منه..فمن التاريخ إلي السياسة إلي الملك إلي الاقتصاد..وتشكل أفكار عبدالرحمن بن خلدون الاقتصادية المبادئ الأساسية للفكر الاقتصادي الغربي, والتي أفرزت مدارس اقتصادية غربية منها( الكلاسيكية, الاشتراكية, النيوليبرالية). ومن أهم أفكاره أن العدل أساس العمران الاقتصادي:لأن العدل تحفظ به العمارة فالظلم يخل بحفظها من خلال وضع الضياع في أيدي الخاصة..وكذلك يقوم المفسدون بالعدوان علي الناس في أموالهم; لذا فإن ابن خلدون يزجي نصيحة ليت كل الحكام الفاسدين وأعوانهم يأخذون بها..يقول:علينا أن ننزع الظلم عن الناس; كي لا تخرب الأمصار وتكسد أسواق العمران, وتقفر الديار, وخاصة أن الشارع أشار في غير موضع إلي تحريم الظلم..ويقول:يقع الخراب بالظلم دفعة واحدة عند أخذ أموال الناس مجانا, والعدوان عليهم في الحرم والدماء, ويقع الخراب بالتدريج, بإحدي الوسائل الثلاثة الآتية: بذرائع باطلة يتوسل بها; كالمكوس( الضرائب) المحرمة..وتكليف الأعمال وتسخير الرعايا بها; حيث يغتصبون قيمة عملهم..والتسلط علي الناس في شراء ما بأيديهم بأبخس الأثمان. ويقف ابن خلدون موقفا متشددا من تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية, خاصة في حالة الظلم والإفساد والاحتكار والتسلط, كما نشاهده عيانا في هذا العصر, من خلال مساعدة الدولة لأصحاب النفوذ المالي, والقضاء علي أصحاب المقاولات الصغري, التي لا تتلقي الدعم من طرف الدولة, ومن ثم تتعرض للإفلاس. لكن ابن خلدون يرفض تدخل الدولة المباشر في الإنتاج والتجارة; لما يترتب عليه من أضرار اقتصادية. وأهم وجوه الضرر تتلخص في القضاء علي ظروف المنافسة السائدة في السوق, واتخاذ الدولة وضعا احتكاريا; لقوتها الاقتصادية, واعتمادها علي نفوذها وسلطانها في البيع والشراء, واستنزافها رؤوس الأموال السائلة لدي المنتجين والتجار, وهو ما يقعدهم عن السعي للكسب والمعاش, وينتهي كل ذلك إلي تقليص الجباية وانخفاض موارد الدولة,وهي نتيجة مناقضة للهدف المبتغي من وراء تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. فمن أعظم صور الظلم وإفساد العمران والدولة في رأي ابن خلدون:التسلط علي أموال الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان, ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان, ويري أن النفقات العامة تزيد بتطور حظ الدولة من الحضارة والعمران..كما يري أن إنفاق الحكومة للمال العام في شراء السلع والخدمات, وتقديم الأموال( الإعانات) لبعض المواطنين ضروري لرواج الأسواق وتحقيق النمو الاقتصادي, وهي الأفكار ذاتها التي تمثل المحور الرئيس للنظرية الكينزية التي أحدثت ثورة في الفكر الاقتصادي قبيل الحرب العالمية الثانية, فزيادة الطلب الفعال الممول من الدولة, في إطار مشروعات الأشغال العامة والإعانات الاجتماعية, وهو الحل المتميز الذي اقترحه جون مينارد كينز للخروج من أزمة الكساد الكبير التي حاقت بالاقتصاديات الغربية في فترة ما بين الحربين العالميتين. إن نظرية ابن خلدون في الاقتصاد لا تتوقف عند وصف الأوضاع الاقتصادية بل تتجاوزها إلي تحليل تطور الأوضاع الاقتصادية علي مسافة زمنية طويلة. نري أن ابن خلدون شخصية شمولية في التفكير الاقتصادي; إذ سعي من تجربته الميدانية وتبحره في العلم الشرعي إلي الخروج بمواقف وتصورات اقتصادية, أصبحت إحدي الركائز الأساسية لبعض النظم الاقتصادية الحالية. [email protected]