يروي كبار السن في بورسعيد بأن تواجد أبناء أحياء بورسعيد الشعبية بالحي الإفرنجي( الشرق حاليا) الذي يقطنه أبناء الجاليات الأجنبية كان شبه ممنوع ومغامرة لايحمد عقباها إذا ما صادف تواجد أبناء العرب والمناخ بالحي الأوروبي الذي استمد اسمه من( الفرنجة) مع دوريات البوليس والشرطة الإنجليزية تحديدا. وكانت رائحة الفل والياسمين وأصوات البيانو لا تنقطع بالحي الراقي علي مدار بداياته الأولي وحتي نهاية عصوره الذهبية وإذا كانت بدايات إنشاء بقية الأحياء والمناطق السكنية التي سكنها أهالي المدينة المصريون وأوائل الوافدين من قري ومدن الصعيد والوجه البحري لبورسعيد للمشاركة في حفر قناة السويس غير معروفة علي وجه التحديد فان البدايات الحقيقية لإنشاء حي الشرق معروفة وبدقة نظرا لارتباطها بواقعة دق أول معول لحفر القناة في5 أبريل1859 وهي الواقعة التي جرت شمال شرق الحي وتحديدا قبالة قاعدة ديلسبس بالمدخل الشمالي للقناة وبحضور الفرنسي فرديناند ديلسبس وممثلي شركة القناة من معظم الدولة الأوروبية. ولا يرتبط تاريخ القناة وبورسعيد بالعقود الأولي لإنشاء مدينة بورسعيد قدر ارتباطه بالحي الافرنجي والذي أقامه الأجانب قاطني المدينة ممن ارتبطوا عملا بالقناة الجديدة وبقية المهن المرتبطة بالبحر المتوسط, فالحي هو الشاهد علي كل الوقائع التاريخية التي توالت علي مصر بنهايات القرن التاسع عشر وكل القرن العشرين بدءا من الافتتاح الأسطوري لقناة السويس عام1869 وإعادة افتتاحها في5 يونية1975 بحضور الرئيس الراحل انور السادات وولي عهد ايران الشاب محمد رضا بهلوي وممدوح سالم رئيس الوزراء حينذاك ومابين الحدثين الكبيرين توالت علي الحي ومحطاته البحرية( ميناء بورسعيد) والبرية( محطة السكة الحديد) زيارات زعماء العالم بحقب القرن الفائت بدءا من ملوك وأمراء أوروبا المشاركين في احتفالية افتتاح القناة, ومرورا بمشاهير الحقبة الناصرية والذين كان الحي مدخلا لزياراتهم التاريخية لبورسعيد برفقة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر والقيادات السياسية لمصر ويأتي علي رأس هؤلاء الزعيم الروسي خروشوف والعراقي عبد السلام عارف والمناضل الجزائري احمد بن بيلا ومواطنته الراحلة مؤخرا جميلة بو حريد والأسطورة محمد علي كلاي. مبكرا جري تخطيط الحي علي الطريقة الفرنسية حيث الشوارع المستقيمة والمتعامدة والنهايات الدائرية( المنشية) حيث جاءت حركة البناء المبكرة لعقارات الحي لتحمل ملامح الطراز المعماري الفرنسي والإنجليزي والإيطالي واليوناني تبعا لتجمعات جاليات تلك الدول وغيرها ومبكرا أيضا أصبح الحي بسكانه الأجانب هو مركز المال والأعمال بالمدينة حيث تركزت البنوك وشركات التأمين والملاحة والبريد في الشوارع الرئيسية بالحي ومن بينها شوارع الجمهورية وفلسطين والنهضة ورمسيس. ومبكرا أيضا عرف الحي سلاسل المحلات التجارية الشهيرة والتي كان معظمها فروعا للمحلات الأصلية بالعواصم الأوروبية ودور العرض السينمائي المماثلة لأرقي دور العرض في أوروبا وأمريكا ومن بينها دور عرض ماجستيك وامبير والكورسال وريو وريالتو والتي كانت تعرض افلام العرض الأول الأجنبية بالتزامن مع دور العرض بأوروبا وأمريكا. وفي مجال المسرح ضم الحي أبرز المسارح بمنطقة القناه وبمصر بأسرها وهو مسرح( الالدرادو) والذي يماثل دار الأوبرا القديمة بالقاهرة في الطراز المعماري الراقي والاناقة وقد استضاف عروضا لابرز الفرق المسرحية الأوروبية والمصرية بنهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين, وعلي ارض الحي اقيمت المدارس التابعة للجاليات الأجنبية المختلفة وأشهرها الفرنسيسكان والليسيه وسانت ماري والراعي الصالح والايطالية واليونانية والأغلبية العظمي من الكنائس وأبرزها اليوناني والمارونية والكاتدرائية الكبري بشارعي23 يوليو وصلاح سالم وهي تحفة معمارية يزورها الاجانب حتي الآن. في المقابل يعج الحي بالمساجد الكبري والتي قام علي بنائها أثرياء بورسعيد من رجال البرو الاحسان بالنصف الأول من القرن الماضي وعلي رأسهم عبد الرحمن لطفي باشا والذي أنشأ علي نفقته مسجد حمل اسمه وجاء بناؤه كتحفة معمارية رائعة جري استيراد معظم مواد بنائها من إيطاليا, وهناك مساجد الرحمة والدمياطي ولا يخل الحي من الحدائق الغناء والمتنزهات ومن بينها حديقة فريال, والفرما والتاريخ( والتي أقيمت علي الأرض التي شغلها كازينو بالاس الرائع الجمال والذي جري هدمه بعد العودة من التهجير وسبقة البيت الحديد والذي يمثل أول اوتيل ومول ومجمع سينمات في مصر باسرها والذي جري هدمه ايضا بالستينيات). ومازال محل سيمون ارزت الشهير المطل علي القناة مغلقا ومعرضا للهدم في أي لحظة. وحتي حرب1956 عاش الاجانب بالحي الراقي حياة هانئة مستقرة فاقت في المستوي مدنهم الأصلية بأوروبا وأمريكا ومع اشتعال الحرب بالمدينة فضل الأغلبية العظمي من الاجانب مغادرته والعودة لبلادهم وسبقهم في ذلك اليهود الذين هاجروا لاسرائيل القريبة من بورسعيد عقب إعلان الدولة الصهيونية في15 مايو.1948 وقد حل اهالي العرب بكل ماخلا من فراغات نتيجة رحيل الأجانب حيث سكنوا العقارات وفتحوا المحلات التجارية المغلقة وشغلوا الوظائف الشاغرة بشركات القناة والتوكيلات الملاحية والتأمين والبوستة والبنوك. ويتحسر أهالي حي الشرق حاليا علي حاله بعدما تحولت شوارعه وميادينه لساحة من القبح والتشويه واحتلت القمامة نواصيه وحاصرت مياه الصرف الصحي والروائح الكريهة كل مناطقه السكنية بلا استثناء وبات مرتعا لأعمال البلطجة والسرقة بالإكراه والانكي مافعلته معاول الهدم بالعقارات القديمة وبالمعالم الأساسية للحي والتي حولته الي مسخ بلا هوية معمارية. ويقول عماد بشير انه ولد وعاش بالحي منذ أوائل الستينيات ويعرف ما كان يمثله حي الشرق( الافرنج) من معان رائعة للجمال في كل بقعة من أرضه, وما تمسك به أهالي الحي من قيم النظام والالتزام والحفاظ علي البيئة وعلي مشاعر الآخرين علي مدار اكثر من100 عام مشيرا لحزنه البالغ لما آل إليه حال الحي والذي تحولت اوضاعه من جميع النواحي لمأساة حقيقية ونموذج لكيفية تدمير الاماكن الجميلة وترويع قاطنيها بكل ماهو مؤسف من أفعال وتصرفات بشرية. وترثي منال الزغبي لحال الافرنجي حاليا وتقول مازال الأجانب الذين عاشوا ببورسعيد وبعد40 سنة مازالوا يفدون لزيارتها لاستعادة أجمل ذكرياتهم.. ذكريات العيش المشترك مع الآخرين بغض النظر عن ديانتهم وعقائدهم تلك كانت المدينة الجميلة حتي رحيل الأجانب عنها. ويقول المصور الفنان وليد منتصر إن الافرنج مثله مثل كل منطقة وحي ببورسعيد قد دفع ثمنا باهظا لتحويل بورسعيد لمنطقة حرة عام1976 حيث تعرضت بورسعيد لهجمة شرسة من النازحين والوافدين الذين لايعرفون قيمة المدينة وجمالها الأصلي, وجري إهدار كل ماهو حضاري بحي الشرق تحديدا بعدما تحولت دور السينما والمسارح لمخازن لبضاعة المنطقة الحرة وراحت العقارات القديمة ذات الطراز المعماري ضحية لجشع المقاولين وشركات الاستثمار العقاري, وعمت الفوضي والبلطجة بالحي الراقي والذي لم يكن أحد يستطيع أن يرفع صوته بشوارعه قبل وحداته السكنية ومحلاته التجارية حتي الخمسينيات.