خلق الإنسان ليسير علي قدمين, لذا ظل المشي النشاط الأساسي الذي يقوم به الإنسان علي مر التاريخ. ولم يمنعه استخدام الدواب أو العربات التي تجرها الخيول عن استعمال قدميه في المشي. ثم كان إختراع السيارة في بداية القرن العشرين, ومعها تغير أسلوب حياة الناس بدرجات متفاوتة حتي وصلنا لما نحن عليه الآن. فنسبة كبيرة من الناس يعتمدون في كل تنقلاتهم علي سياراتهم الخاصة, أصبح ركوب السيارة هو الأكثر اعتيادا إلي درجة أننا لا نفكر في خطورة السيارة علي سائقيها, وبدا في بعض الحالات وكأن أحدا لا يعبأ بالمشاة; لا مخططو الطرق ولا راكبو السيارات, فلا أرصفة مستوية تصلح للسير ولا إشارات مرور تتيح للسائرين علي أقدامهم عبور الطريق. لكن الأمر يبدو غير ذلك تماما من وجهة نظر عدد كبير من خبراء تصميم المدن والطرق في الغرب, إذ يعتنق هؤلاء فلسفة واضحة وبسيطة تقول إن الإنسان حيوان يسير علي قدمين. إنهم يخططون ويبنون مدنا عصرية تتيح لسكانها مساحة أكبر للمشي واللعب وركوب الدراجات; مدنا نظيفة وخالية من العوادم. كما أنهم يعيدون تنظيم شوارع وسط المدن القديمة للحد من وجود السيارات. الغريب أن علماء المستقبليات في منتصف القرن العشرين تنبأوا بأن إنسان القرن الحادي والعشرين لن يقود سيارة تمشي علي الأرض, بل تطير في السماء, لكن النبوءة لم تصدق لأن مهندسي الطرق المعاصرين الآن يتصورون أن إنسان المستقبل القريب لن يمتلك علي الأرجح سيارة علي الإطلاق. وفي النرويج يعمل المسئولون بكل اجتهاد كي تصير أوسلوالمدينة الأولي في أوروبا والعالم التي تختفي منها السيارات الخاصة مقابل التوسع في مد طرق خاصة للدراجات. ولا تبدو الفكرة غريبة علي الشعب النرويجي الذي تتوجه نسبة الربع منه إلي أماكن عملهم يوميا سيرا علي الأقدام أو بالدراجة, فضلا عن أن خمسة وثمانين في المائة منهم يستخدمون المواصلات العامة في تنقلاتهم. والسبب في ذلك يعود بالطبع إلي السهولة واليسر التي توفرها المواصلات العامة لمن يستخدمها من مقاعد مريحة ومواعيد دقيقة وتجهيزات كهربائية وإليكترونية تتيح للركاب استخدام أجهزتهم الذكية أثناء رحلاتهم اليومية. والاتجاه نحو تشجيع الناس علي تغيير أسلوب حياتهم بالحد من استخدام السيارة الخاصة لا يستهدف فحسب التخلص من أزمات المرور وتكدس السيارات علي الطرق, بل تحسين نوعية الحياة بشكل مؤثر, فسيارات أقل يعني انخفاض نسبة العوادم وحوادث الطرق. يعني أيضا صحة أفضل لأن الناس عندما لايستخدمون سياراتهم, سيستنشقون هواء أنقي وسيمارسون رياضة المشي كي يصلوا إلي مقار أعمارهم أو إلي مواقف المواصلات العامة. وقد سبقت أوسلو بفضل قرارات مسئوليها الجريئة غيرها من المدن الأخري حول العالم, من باريس ولندن إلي نيويورك ولوس انجلوس, علما بأن هذه المدن بدأت منذ سنوات بعيدة خطوات في هذا الاتجاه مثل حظر سير السيارات العتيقة الأكثر تلويثا للهواء, ومنع دخول السيارات إلي الشوارع المؤدية لمناطق وسط المدينة خلال العطلة الأسبوعية لإتاحة فرصة أكبر للمشاة وراكبي الدراجات صغارا وكبارا, وهو ما يصفه أنريكو بناسولا رئيس الوزراء السابق لكولومبيا بأنه الديمقراطية العملية, باعتبار أن إتاحة مساحة أكبر من الشارع للمشاة تمثل تعبيرا عمليا عن احترام الكرامة الإنسانية للجميع وليس فقط لمن يملكون سيارات خاصة والذين قد يتصورون أنهم الأكثر أهمية وأن الطرقات وجدت خصيصا من أجلهم. ولكن إلي أن يأتي هذا المستقبل ونعيش في مدن عصرية, قد يظل منتهي أمل المشاة في كثير من دول العالم الثالث أن يسمح لهم مهندسو الطرق بهامش علي الطريق; رصيف يمكن السير عليه, ومكان لعبور الشارع في أمان.