باستثناء ديفيد كاميرون, لم يتحدث رئيس وزراء أو وزير بريطاني, خلال العقدين الماضيين, علي الأقل, علنا وتفصيليا عن نظرية التآمر الغربي ضد العالمين العربي والإسلامي. أقر كاميرون بأن لأفكار التآمر الغربي واليهودي بريقا وجاذبية خاصة لدي الشباب المسلم. واجتهد, في خطاب ألقاه في شهر يوليو الماضي حول خططه لمكافحة التطرف, في دحض نظرية المؤامرة التي ذكرها في خطابه ثماني مرات. حينها, اتسم نهج كاميرون في تحدي المؤمنين بفكرة التآمر الغربي بالوجاهة والقناعة بأن النجاح في إقناع هؤلاء, لاسيما الشباب المسلم في بريطانيا, بوهم النظرية يعني قطع شوط كبير علي طريق مكافحة التطرف. بعد مرور حوالي3 شهور علي خطاب كاميرون, أطلت في بريطانيا مؤشرات تفند دفوعه وتعزز موقف المؤمنين بأن الغرب يتآمر خاصة علي العالم العربي. في ملف سوريا وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام داعش, ظهر أحد هذه المؤشرات. الشهر الماضي, أعلن كاميرون أمام مجلس العموم أن الجيش البريطاني شن غارة دقيقة محددة الأهداف في سوريا لقتل شابين مسلمين بريطانيين من المنضمين لداعش. وأكد أن معلومات استخباراتية دقيقة أكدت أن الشابين كانا يخططان لهجمات إرهابية في بريطانيا. الآن بريطانيا هي رأس حربة في الحملة علي التدخل العسكري الروسي في سوريا الذي تقول موسكو إنه يهدف إلي القضاء علي داعش الإرهابية. ويرد كاميرون ووزير دفاعه مايكل فالون مؤكدين أن معلوماتهما الاستخباراتية الدقيقة, مرة أخري, تكشف أن الغارات الروسية تستهدف, إضافة إلي مواقع داعش, المعارضة السورية المسلحة الساعية لإسقاط نظام بشار الأسد. مثل هذه المعلومات الاستخباراتية الدقيقة التي تعني أن للاستخبارات الغربية عناصر في هيكل داعش, تقوي موقف المتسائلين, حتي في بريطانيا, عن السبب الحقيقي وراء فشل تحالف يضم62 دولة علي رأسها أمريكاوبريطانيا, ويقول إنه يستهدف داعش في العراقوسوريا بعشرات الغارات يوميا منذ شهور, في القضاء علي التنظيم المعجزة. ومن وجهة نظر المؤيدين لفكرة أن بقاء نظام الأسد الديكتاتور يظل أفضل لسوريا والمنطقة من تمدد داعش, لا يبدو موقف بريطانيا, والدول الغربية من الدعم العسكري والسياسي الروسي للأسد مبررا. فدول التحالف, ومن بينها دول خليجية, تعلن أنها تدعم فصائل معارضة للأسد بالسلاح والتدريب والمال, فلماذا تنتقد روسيا وإيران والعراق حين يساندون حليفهم في سوريا. تقول بريطانيا وحلفاؤها إن عيونهم مفتوحة لتجفيف منابع الدعم المالي والبشري لداعش. غير أن الحديث لا ينقطع في بريطانيا عن استمرار ينابع الأموال المتدفقة من منظمات وأفراد بدول خليجية, حليفة للغرب في حربه ضد النظام السوري وداعش, علي منظمات متشددة في سوريا بذريعة الجهاد ضد نظام الأسد الجزار, حسب وصف كاميرون. ولم تعلن بريطانيا عما تفعله لتجفيف منابع هذه الأموال في الخليج. في ملف ثورات الربيع العربي ظهر مؤشر جديد يغذي نظرية المؤامرة. فحكومة كاميرون كانت في طليعة الدول التي دفعت باتجاه التدخل العسكري لنصرة الثوار وإسقاط معمر القذافي الديكتاتور. وتكشف وثائق الخارجية الأمريكية, المفرج عنها أخيرا, أن توني بلير, رئيس الوزراء البريطاني السابق الذي كانت تربطه علاقة قوية بالقذافي, نصح الزعيم الليبي, خلال الثورة عليه عام2011, بأن يبحث عن مكان له خارج ليبيا. وتشير الوثائق إلي أن بلير صارح للقذافي بإنه مالم يفعل ذلك سوف ينتهي الأمر بالدم. وأبلغ بلير مكتب كاميرون بهذه الاتصالات, لكن الأخير تجاهل مساعي بلير الرامية إلي التوصل إلي صفقة مع القذافي تنهي حكمه دون انزلاق ليبيا إلي الفوضي والحرب الأهلية. وفي السيرة الذاتية لرئيس الوزراء الحالي كاميرون في رقم10: القصة من الداخل2010 إلي2015, كشف كاتباها أنثوني سيلدن وبيترسنودون أن كاميرون لم يعبأ بمبادرة بلير. وذريعته كانت أنه أراد تجنب أن يفعل أي شئ قد يفهم منه أنه يقدم يد المساعدة للزعيم الليبي. وتكشف السيرة الذاتية أنه بينما كان بلير علي اتصال مباشر بالقذافي ومكتب كاميرون في أواخر فبراير2011, كان الأخير يستعد لتجهيز الجيش البريطاني للمشاركة في التدخل في ليبيا عبر تحالف دولي بدأ بفرض حظر جوي علي ليبيا في الشهر التالي. وربما لو أهتم كاميرون بمساعي بلير, لما وصلت ليبيا إلي ماوصلت إليه, إلا إذا كان هذا هو المراد. آخر الشواهد المتاحة, حتي الآن, علي التآمر المبيت علي الثورات العربية هو موقف بريطانيا المعدل من حقوق الإنسان التي كانت المبرر الأول للسياسة البريطانية المعلنة المؤيدة للانتفاضات الساعية للتغير السلمي في العالم العربي, والمعارضة لأنظمته الديكتاتورية المنتفض ضدها. الآن بعد المآل الذي آلت إليها الانتفاضات, تقول بريطانيا إن التجارة والبيزنيس وليس حقوق الإنسان هي أولوية سياستها الخارجية. ويعلن سير سايمون ماكدونالد, الوكيل الدائم بالخارجية البريطانية أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس العموم أن أجندة الرخاء, التي تعني فتح المجال أمام الشركات البريطانية في الخارج والحصول علي عقود بزنيس في السلاح وجذب استثمارات عربية, وغيرها, إلي بريطانيا, أهم من شعارات مكافحة الظلم والقهر وقمع حقوق الإنسان في الدول التي توفر هذه العقود. والرسالة واضحة وهي أن بريطانيا دعمت, في البداية, المنتفضين علي أنظمة الحكم الفاسدة المنتهكة لحقوق الإنسان. ثم انتهت الأمور بسيطرة داعش وأمثالها فجأة علي الساحة ومعها عاد نفوذ بريطانيا إلي المنطقة, وأكبر شواهده دورها العسكري المتنامي بالمنطقة متمثلا في قاعدتها الجوية الضخمة في البحرين ومشاركتها في العمل العسكري في العراقوسوريا. ولما انتهت الأمور إلي ما انتهت إليه في المنطقة, أعادت بريطانيا, ترتيب أولوياتها, فلم يعد الإنسان وحقوقه الأهم. لا يعتبر سير سايمون وغيره من الساسة البريطانيين أن التغير في سياسة بلادهم تجاه الشرق الأوسط المضطرب مؤامرة, لكنها مواءمة تقتضي في المرحلة الحالية الترويج للشركات البريطانية في الخارج في إطار خدمة المصالح القومية العليا لبريطانيا وشعبها. وهذا مالم يفعله زعماء المنطقة في إدارة بلدانهم. فما لم يفعل حسني مبارك ومحمد مرسي من بعده ما فعلاه في مصر, والقذافي في ليبيا, وزين العابدين بن علي في تونس وعبد الله صالح في اليمن, وبشار الأسد في سوريا, ما نجحت مؤامرة الغرب ضد بلادهم.