ملف الفساد هو الأضخم والأكثر تعقيدا, ويمثل التحدي الأكبر أمام الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد ملف الإرهاب, نظرا لأن الفساد تجاوز حد الظاهرة, ويعتبره البعض من طبائع الأمور. التقديرات التي يشير إليها الجهاز المركزي للمحاسبات تدور حول200 مليار جنيه تذهب إلي جيوب الفاسدين سنويا في مصر, وهو مبلغ قادر علي تحويل مصر إلي قوة اقتصادية ضاربة لو تمكنت من استثماره في إنشاء المشروعات الإنتاجية الكبري, والنهوض بالخدمات الحيوية مثل التعليم والصحة, ولما احتاجت مصر إلي المساعدات والقروض من الخارج. لكن مجرد تقليص الفساد مهمة صعبة, فقد تراكم الفساد واتسعت قاعدته, حتي بات جزءا من الحياة الطبيعية للمواطنين, بل إن صغار الموظفين والمهمشين يرونه حقا طبيعيا لهم, لكن فساد الصغار- والذي يطلقون عليه إكرامية أو الشاي- لا يشكل تهديدا كبيرا للاقتصاد المصري, رغم أنه يمثل القاعدة الشعبية للفساد, فأغلب من يحصلون عليه لا يخالفون القانون, أو يسهلون الاستيلاء علي المال العام, ويحصلون علي هذه الإكرامية لتسريع خطوات الحصول علي الخدمة, بسبب عرقلة المنظومة البيروقراطية وإبطائها لأيه معاملة, مما يدفع الكثيرين إلي حث الموظفين الصغار علي إنهاء معاملاتهم من خلال تلك الإكرامية والتي يعتبرها الموظف بدوره نوعا من الحوافز لأن راتبه لا يكفي حاجاته الأساسية, بينما يحصل كبار الموظفين علي مكافآت ضخمة من دون عمل يستحقون عليه كل هذه المكافآت. لكن عندما نصعد خطوات باتجاه قمة هرم الفساد سنجد الصناديق الخاصة, التي انتشرت في كل أجهزة الدولة, والبعيدة عن أيه رقابة حقيقية, وتمثل المصدر المهم لفساد كبار الموظفين, ويتم توزيع عائداتها بطريقة غير شفافة, بل لا تكاد الأجهزة الرقابية تعرف حجم أموالها ولا طريقة توزيعها, فهي قدس أقداس كبار موظفي الدولة وكنزهم الكبير. أما في قمة هرم الفساد فنجد التشابك بين كبار العاملين في الدولة وكبار رجال الأعمال, حيث يجري التلاعب في أملاك الدولة, سواء أكانت أراضي داخل المدن أم في الصحراء أو شركات قطاع عام أو مناجم ومحاجر, وغيرها من الثروات العامة, التي تحولت بمضي الزمن إلي غنائم يجري توزيعها وتقسيمها بين شبكات الفساد الكبيرة, التي توسعت وتوغلت وزاد نفوذها, حتي أصبحت تمثل خطرا كبيرا علي الدولة. لا يمكن تصور أن يتم علاج هذا الملف الشائك والمعقد بين يوم وليلة, فهذا مستحيل, لكن تقليصه وبداية علاجه سيكون لها نتائج ملموسة وكبيرة, ويكفي أن يشعر المواطن أن الفساد لا يتمتع بمظلة حماية من أجهزة الدولة, وأنه ليس أمرا واقعا لا يمكن تجنبه, وهو ما يشجع علي وقف زحف الفساد, ويعيد للعمل والعلم بعضا من قيمتهما الضائعة وسط ركام وثروات الفاسدين, والتي جعلت الفساد شطارة وعلامة نجاح, ويحقق ثروات ضخمة للطامحين, بينما العلم والعمل لا يعطي إلا الفتات, ونتيجته هي الفشل في مواجهة متطلبات الحياة, وتلك صورة مرفوضة ولسنا في حاجة إليها, بل إن ما نحتاج إليه هوإعادة الاعتبار لقيمتي العلم والعمل, وأن يحصل المتفوق علي حافز يدفعه لتحقيق المزيد من التفوق, ويكون بمثابة نموذج للآخرين ليفعلوا مثله, فتتوجه طاقات شبابنا إلي التنافس علي الإنتاج والتفوق, بدلا من الفهلوة. نحتاج إلي أن تكون الكفاءة هي معيار الترقي في الوظيفة, وأن يصل الأكثر كفاءة إلي أعلي المناصب, وليس الموظف المعتمد علي الواسطة, أو الذي يسهل ارتكاب جرائم الفساد, لأن مثل هذا الطريق لا يمكن أن يؤدي إلا إلي التدهور والفشل. سيبدأ تحقيق أمل مصر في البناء والتقدم كلما استطعنا تقليص مساحة الفساد, وتمهيد الطريق أمام قيم العلم والإنتاج والضمير.