بعدما تناولنا فى المقال السابق كيف أن الحزب الوطنى المنحل شرع بعد صدمة انتخابات 2005 فى عملية إصلاح لمعالجة تصاعد قوة المعارضة ولاسيّما جماعة الإخوان المسلمين على إثر نتائج الحزب فى أول انتخابات شبه نزيهة، وكيف أن تلك العملية ساهمت فى تفكيك الشبكة السياسية التراثية القديمة الزبائنية - وعلى أثرها تفكك النظام السياسى برمته. فى السياق ذاته تجدر الإشارة إلى أهمية دور السياسى وخبراته فى إدارة الصراع السياسى وامتلاك البدائل لتفادى تحويل هذا الصراع إلى مواجهة صفرية، فضحالة وانعدام خبرة القيادات الجديدة للحزب فى حينه، ساهم فى خلخلة الكتلة المتماسكة التى تدور فى فلك الحزب "النظام" الدولة بتناغم. بمعنى آخر الحزب الوطنى بتكوينه وطبيعته وتاريخه وارتباطه بالدولة وأجهزتها ومؤسساتها وقياداتها، وامتدادات تلك المكونات إلى قاعدة شعبية أكثر اتساعا، لم تتحمل عملية التغيير التى قام بها الوريث وصحبه ومنظروه رغم أنها بدت عملية شبه ديمقراطية داخلية، بينما كانت الشبكة التراثية قبل تلك الإجراءات قادرة على حفظ التوازنات واستقرار الحزب - النظام وفق منطق كمال الشاذلى السلطوى المُرَشد فى هندسة الصراع السياسى داخل الحزب ومع المعارضة، وإن كانت "زفتى كميت غمر"، لكن أثبتت التجربة أن الشاذلى "حِزْنه" فى الواقع كان أقل. السياسى "الساذج" فى الأخير شرع فى احتكار السياسة كما يحتكر ونخبته الثروة، فى خلط وجهل باختلاف الاستثمار فى السياسة عن الاستثمار فى الاقتصاد، وذلك على الرغم من أن المنظرين كانوا أعلاما فى العلوم السياسية، وهو ما أدى فى النهاية إلى غلق المجال العام أمام المعارضة بصورة شبه تامة، والتى منعت بحيل أمنية من مجرد تقديم أوراق ترشحها فى انتخابات 2010، ولم يكن هذا الأمر مؤثرا فى تصاعد موجة إحباط وغضب لدى المعارضين ولدى العامة وحسب، بل ساهم فى غضب داخل الحزب، ربما وصل حد الشماتة فى الحزب يوم حرقه فى جمعة الغضب، وإن عادت الشماتة أدراجها عندما أدرك رجال الحزب أن النار ممتدة. المقصود هنا هو كيف أن إدارة الصراع السياسى وهندسته فى أية بيئة سياسية حتى ولو كانت سلطوية يجب أن يكون وفق منطق يسمح بحدود معتبرة من الشرعية والتوازن والاستيعاب، ولا يعتمد على الأمن والمصادرة التامة أو الإقصاء، حتى فى لحظات اليقين التام بامتلاك قوة البطش كاملة، وذلك حتى لا تنهار العملية فجأة كما حدث لنظام مبارك الفاسد فى ثمانية عشر يوم بعد انتخابات 2010 الشهيرة. المفيد هنا أن الانتخابات البرلمانية قادمة ولا تبدو من مقدماتها أننا بصدد عملية استجابة لتحولات البيئة السياسية بعد ثورة 25 يناير، من حيث البناء الدستورى أو القانونى أو الإجراءات المكملة، ومن ثم على مستوى الهندسة الجغرافية للدوائر، وبالتالى تكاد تتقلص فرص تغيير التركيبة النخبة - الطبقة السياسية المنتظرة. اختلال الاستجابة وعدم امتلاك معادلة شاملة لإدارة الصراع السياسى، قد يحول البرلمان القادم إلى سيرك، أو غابة، حيث قد يضم كوادر محدودة التأهيل غير قادرة على ممارسة مهامها ومن ثم معوقة للعملية السياسية، وفى ظل حالة الاصطفاف الغريبة دون تمييز بين برامج أو توجهات أو حتى فصل بين معارضة ومؤيدين لتوجهات النظام القائم، فإننا بصدد حلبة للصراع والتنافس بين الأجنحة المتصارعة على كعكة السلطة والنفوذ والمصالح والمال، ومن ثم سيكون برلمانا بعيدا عن هموم الناس ومشاكل السياسة والاقتصاد والحياة العامة، ناهيك عن كونه غير معنى بفتح نوافذ أمام دفقات الأمل المحاصر والمضطهد بعد ثورة 25 يناير الفريدة.