صدرت أخيرا رواية أحزان الشماس للروائي سعيد نوح عن سلسلة ابداعات التفرغ بالمجلس الأعلي للثقافة واللافت أن الرواية صدرت بعد انتظار دام أربعة عشر عاما فقد ألفها نوح في العام1995. وهذه الرواية هي الثانية للكاتب لكنها السابعة في مسيرته مع النشر وفيها حاول ايجاد معادل موضوعي لشخصية اخته سعاد التي كانت بطلة لروايته الأولي كلمارأيت بنتا أقول لها ياسعاد التي وجدت اهتماما نقديا لافتا وقت صدورها, ومايميز رواية نوح الجديدة انها تكشف الحياة السرية لرهبان الأديرة وهي منطقة لم يتطرق لها أحد في السرد المصري المعاصر, بسبب الحساسية الدينية, ربما باستثناء عمل يوسف زيدان الشهير عزازيل ومن ثم وجدت الرواية اهتماما ملحوظا في أوساط الروائيين, حتي أن الكاتب جمال مقار أكد ان سعيد نوح هو الوحيد الذي استطاع ان يعبر عن الشخصية القبطية الحالية بهذه الكثافة ورفض القراءة المباشرة للرواية مشيرا إلي أنه يجب اعلاؤها لمستوي الرمز فهي نشيد ضد التعصب فيمارأي الناقد سيد الوكيل ان هناك سمتين تميزان كتابة نوح اولاهما انه يكتب وكأنه يري كل تفاصيل عمله مما يؤدي لبعض التعاطف بينه وبين شخصياته وثانيتهما هي الطابع العرفاني الذي يعتمد علي الكشف الصوفي الذي يميز أغلب شخصياته والتي تبدو دائما أقرب للملائكة او علي الأقل القديسين ويتفق الوكيل مع ما قاله الشاعر شعبان يوسف في وصف الرواية مؤكدا ان رواية احزان الشماس التي تظهر انحيازات هي أصيلة في إبداع الكاتب لعالم المهمشين.وهنا حوار الكاتب عن روايته الجديدة وعالمه الروائي ** صدرت رواية احزان الشماس بعد أربعة عشر عاما من كتابتها ما الذي جعلك تنتظر كل هذه السنوات؟ * لاسباب لا أعملها تأخرت الرواية في اروقة المجلس الأعلي للثقافة وأنا بطبعي إنسان انطوائي, ولا أجيد التعامل مع المسئولين, وللحقيقة لولا الكاتبة المبدعة أمينة زيدان التي وجدت الرواية في أرفف المجلس قابعة يعلوها الغبار وقرأتها, وتحمست لها لما صدرت حتي الآن, وبصدق, لا أعرف ما الذي منعني من نشر الرواية في مكان آخر وربما لو فعلت ذلك لتغير حالها وخاصة انها سبقت كل تلك الروايات التي عالجت الآخر الديني وكشفت عالمه عن قرب. وبصراحة انا لا أعرف لماذا تركتها كل هذه السنوات, ولكن يبدو أنني أحب ان اعيش شخصية المسيح كما يخبرني اصدقائي, يبدو أنني استمتع بالظلم, فمثلا رواية61 شارع زين الدين ذهبت بها إلي دار الهلال بناءعلي طلب الاستاذ مصطفي نبيل بعد أن كلمه المرحوم عمنا إبراهيم منصور عام1998 بعد كتابتها مباشرة ولكنها ظهرت عام2007 بعد ظهور عدة روايات عن العشوائيات يبدو أن الله يدخرني لدور المظلوم, ولكن ايضا هناك عادة سيئة أتمتع بها إلي جانب الخجل الذي يمنعني من الإلحاح وهي اني لا أجيد إدارة الذات كما يقولون. ** تردد ان الرواية ستطرح ثلاثية فهل هناك أجزاء أخري ستطرح من الرواية لتكتمل الثلاثية؟ * لا لقد أدمجت الثلاثية في عمل واحد بناء علي تعليمات المجلس الأعلي للثقافة, بعد أن طلب المسئولون عن النشر مني أن أحذف منها ما يمكن ان تعترض عليه الكنيسة, بصراحة لقد حذفت منها أجزاء كثيرة كانت تشير بشكل كبير إلي الأحداث التي حدثت أخيرا وبالطبع لقد انصعت تماما, ألست أنا الساعي اليهم؟ ألست أنا الذي يحتاج للمؤسسة؟ كل ما طلب مني فعلته دون تقصير حتي تري النور. ** ما الذي جعلك تتطرق للحديث عن الأديرة وهي منطقة مهمشة ابداعيا؟ * اتذكر جيدا أني بعد كتابة رواية سعاد عام92 وقبل أن تنشر وبالتحديد في عام94 كنت أبحث عن معادل موضوعي لشخصية سعاد في الديانة المسيحية, سعاد ابنة الموت في الوقت الخطأ, وبالفعل كتبت قصة موت مينا ذلك الشاب الصغير, وبعد أن انتهيت من القصة فكرت ان يكون مينا بطلا لرواية تماثل رواية سعاد ولكن بطريقة أخري غير طريقة سعاد التي اعتبرها النقاد حين ظهرت للنور كتابة جديدة ومنها خرجت مقولة رواية التسعينيات فقد نشرت سعاد عام1995, وكانت تبشر بموجة من الكتابة راهنت علي التجريب في السرد الروائي, وسمي كتابها فيما بعد بجيل التسعينيات ورغم ان تجربة موت سعاد هي تجربة شخصية الا أني أردت أن أكتب مرة ثانية عن الموت الفجائي, وربما يعود إلي أني ابن لحضارة تمجد الأموات, إلا اني اعتقد انني قد تناولت الموت في روايتي الأولي لمصلحة اجتماعية بحتة وهي استعادة سعاد أختي مرة اخري بعد أن حجزتها عني مجموعة من الأحجار ووجدت ضالتي في شخصية مينا ومن هنا بدأت البحث عن المكان المناسب لموت ذلك الشباب, ووجدت الدير هو المكان الأمثل, فقررت ان أتعرف علي حياة الرهبان والكهنة بما أنني قررت ان يكون الدير مكانا لأبطالي. ** ألم تخش من تدخلك في الحياة السرية لرهبان الأديرة؟ * كمسلم يعيش في ذلك البلد التي لا يعرف فيها المسلم عن اخوته المسيحيين شيئا كنت خائفا, متوجسا وأنا أقرر أن أخوض تجربة العيش داخل الدير خصوصا أن هناك مقولات شعبية مليئة بالهرطقة الجنون ولا يستوعبها إلا مخبول تقال ويصدقها المسلم كما يصدقها المسيحي. لقد وصل انتشارالخرافات إلي أن الناس تصدق ظهور العذراء الحسين, ولكنني كصديق ومحب لأخوة وأصدقاء مسيحيين يشاركونني الملبس والمأكل داخل بيتنا الموجود بحلوان تخلصت من خوفي وهواجسي وأقدمت علي الذهاب, وقد ساعدني صديق في الذهاب إلي دير المحرق بأسيوط, وساعدني أكثر اسمي الذي لا يشير بشكل واضح علي مسيحي أو مسلم, فاسمي كما ترين ملتبس. وذهبت هناك ومكثت بين الرهبان والكهنة فترة طويلة, وقد فرح لي أب الدير حين أهديته رواية كلما رأيت بنتا حلوة أقول يا سعاد وأحب الشخصيات وتعاطف معها, بل وتمني أن أكتب عن الدير كتابة محبة بهذا الشكل. لقد اكتشفت عالما آخر, هناك رهبان وقساوسة نورانيون إلي حد بعيد, ثمة أرواح جميلة ومتسامحة. أما عن الحياة السرية فأقول لك بكل قوة إن الرواية التي لا تكشف جزءا حقيقيا من الوجود مازال مجهولا بالنسبة لي هي رواية لا أخلاقية. إن الرواية الجيدة هي التي تقدم لنا المعرفة, فإن خلت الرواية من معرفة, فقد فقدت قيمتها بالنسبة لي. ولهذا سعيت إلي تلك المعرفة التي تعتبر سرية حتي للمسيحي قبل المسلم. ولقد سعدت بالمعرفة تلك كما سعدت بالتعرف علي هؤلاء الرهبان. ولهذا كتبت عنهم بحب. أنا لا أريد الشهرة التي تأتي علي حساب اخي في الوطن. ** ماذا تقصد من عرض رواية عن الشماس وهو أقل مرتبة في النظام الكنسي ويعتبر شخصية مهمشة؟ * الكتابة رؤية, وبقدر عمق الرؤية تتحدد قيمة الكتابة. أريد أن أقول أن روح الرواية هي روح الاستمرار. ولكن الاستمرار الذي أطلبه هو استمرار استثمار ما سبق انجازه وإلا فلن يبقي سوي ثرثرة لا نهاية لها لمحبي الخربشة فوق زجاج أملس. أما الكتابة التي أعنيها فلابد لكل عمل جديد من شكل جديد ومضمون جديد. ولذلك لم يكن يعنيني مرتبة الشماس في النظام الكنسي بل الانسان في البداية والمنتهي. ولا أقصد من وراء ذلك الكتابة عن المهمشين علي الاطلاق. فقد سبق وكتبت رواية61 شارع زين الدين التي صدرت عن دار الهلال في2007, وهي عن منطقة مهمشة, وكل أبطالها مهمشون, كما أن الشماس رغم درجته السفلي في السلم الكنسي إلا انه يعتبر الرجل الثاني في الدير بعد الأب مباشرة. ولهذا مصطلح المهمش غير حقيقي إلا إذا كنت تتحدثين عن المهمش الديني ففي هذا أنا معك تماما. ** هل تقصد عرض حياة أشخاص مهمشين في رواياتك؟ * بالتأكيد أنا أحد المهمشين في ظل مناخ رديء ومتدن ومليء بالفساد علي كل المستويات. كيف يصبح كاتب ما عالميا, وهو لم يكتب في حياته أكثر من عملين روائيين؟! وهناك من الكتاب من يفني عمره في كتابة منجز روائي ضخم, بل وعميق وجمالي ولا ينال من التحقق الأدبي أو المادي شيئا؟! هل هناك سوء أكثر من ذلك؟ وأنا لا أقصد من كلامي هذا كثرة الأعمال, ولكنني أقصد جودتها قبل كثرتها, فهناك من الكتاب من يقدم للحياة الثقافية كل عام رواية ومع ذلك لا يؤثر ولا يبقي لأن العبرة في النهاية بالقيمة الفنية والأدبية, بصراحة أنا أنحاز لكل ماهو جمالي, وكل ما يقدم معرفة للقارئ ويقدم دهشة, فقليلة هي الأعمال التي تعطينا الدهشة, وقليلة هي الروايات الصالحة لإثارة الدهشة. ** جميعنا لدينا الخبرات ولكن من يجيد الانصات للتفاصيل؟! * وللأسف المناخ الذي نعيشه يمثل عبئا علي حرية الابداع, فقد أفاد الكتاب العالميون من ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة, أما نحن فممنوع علينا الاستفادة منها لأن بعض رجال الدين إن لم نقل كلهم يرون فيها كفرا, وقد رأينا الضجة الأخيرة التي أثارها بعض المحامين الذين تطوعوا لحماية الشعب من ألف ليلة وليلة كي لاتفسد أخلاقه, ولكن القضاء رفض الدعوة لحسن الحظ..