لا شك أن التاريخ الإنسانى دورات تترك فيها كل أمة للتى تليها خبرتها وتجربتها وخلاصة إنتاجها المادى والفكرى، ليستمر الإنسان فى الارتقاء جيلا بعد جيل، وأمة بعد أمة، وحضارة بعد حضارة، متكئا على هذا الإرث، ولولا هذا المدد الإنسانى المتصل لما وصلت البشرية إلى كل ما نراه من منجزات حداثية على كافة المستويات ومختلف المجالات، فسياسيا رحلة إنسانية شاقة تكلفت منذ فجر التاريخ حروبا وتضحيات حتى انتهت الإنسانية إلى ترسيخ قيم الحرية والمساواة والعدالة وسيادة القانون والشفافية وحقوق الإنسان والديمقراطية. إلخ. سلة القيم تلك أصبح لها سيادة وشرعية كونية، وذلك لأن المرحلة الراهنة من التاريخ الإنسانى تتسم بالانضغاط والاتصال وانحسرت تفاعلاتها متجاوزة الحدود حيث لا زمن وحيث لا جغرافيا، وذلك بعكس النماذج التى برزت فى حقب تاريخية سابقة، كانت لكل منها فرادتها، وذلك لأن المساحات الزمنية والجغرافية بين التجارب الحضارية فى التاريخ كانت واسعة، ومن ثم فإن رفاهية هامش الحركة الذى كان متوافرا أمام الأمم للعودة إلى الفاعلية فى مراحل تاريخية سابقة لم يعد متاحا الآن، ومن يرد مسايرة حركة التاريخ بحق، فليس أمامه سوى المصالحة مع تلك السلة من القيم، لأنها أصبحت ملهمة للشعوب ومحركة لطاقاتهم. ولا يعقل فى عالمنا الذى أصبح صغيرا على كبره قريبا على بعده، أن يكون متسقا مع ذاته من يعزل نفسه أو يغمض عينيه، أو يطرح لنا مشروعا يصطدم مع كل تلك المكتسبات تحت أى دعوى، أو يدعى خصوصية تذويه أو حدودا تطوقه، بصراحة هذا سيكون طرحا يتيما، وبلا شك سيخلق فى أى مجتمع صراعا متواصلا وفوضويا، تستنزف مزيدا من الجهد والوقت. فالشعوب أضحت ترى أنه لا يمكن تجاوز سلة القيم تلك، باعتبارها طريقا ناجزا لتحقيق التقدم. لكن المشكلة أن بعض دولنا اختفت عن خريطة العمران الاجتماعى والسياسى لزمن، ولم تتفاعل مع التاريخ وظلت أسيرة الاستبداد والقهر، وحبيسة البكاء على أطلال مراحل السيادة الحضارية فى القرون الفائتة، بل وقعت فى العصر الحديث على خط الفصل بين الإيديولوجيات العالمية، لا هى استلهمت منها قيمها أو استعارت نماذجها ولا قدمت نموذجها الخاص، بل كانت أداة تحركها الدول الكبرى وتنهكها بصراعات فكرية وثقافية بين الماضوية والحداثية، وصراعات إنسانية بين البشر على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأعراقهم وثقافاتهم. وفى الأخير أبلتها بكيان استيطانى عنصرى غاصب مزق وحدتها وتلاعب بدولها وأصبح على صغر حجمه متعملقا، وعلى قلة عدده متفوقا. وهذا الانفصال الحضارى والانحسار الذاتى فى آن فى مشرقنا العربى على سبيل المثال، أظهر مدى عجز النخبة عن التقاط الإشارة التاريخية بحتمية الاستجابة لحق الشعوب فى التمتع بقيم السيادة كمخرج وحيد لهذا التخلف الزمنى والمكانى عن الالتحاق بالركب الإنسانى، ومن ثم انفجرت المنطقة ودخلت فى مرحلة تتقاتل فيها الفرق والجماعات كقطعان بربرية، لا يحكمها منطق أو عقل أو حتى دين، وكأننا فى صراع بقاء يقاتل فيه الكل الكل، فلا احتكام لقاعدة أو منطق أو عقل، ولا رغبة فى الحفاظ على إقليم أو سلطة أو شعب، فبدلا من السعى لتأسيس نظام حضارى عصرى، يبقى المطروح مشروعات متخيلة ابنة زمانها القديم، وكأننا لا نعيش ضمن هذا العالم المتعولم الذى انتهت خبراته بالتوصل إلى سلة قيم لا خلاف حولها، وأصبحت حقا إنسانيا كالماء والهواء، وبالتجربة أثبتت جدواها دون تعارض مع الخصوصيات فى معظم أنحاء الأرض. لكن مع أسى يبقى حتى حين المطروح مشروع داعش المتسربلة بقشور الدين دون وعى بمقاصده، وهو نموذج فاشي لا هو من الإسلام ولا هو من العقل، أو نموذج بشار الذى يراد له أن يسود، حتى نظل خارج السياق الإنسانى، مخيرين بين دعاة القتل باسم الدين، أو دعاة الوصاية والقهر باسم الاستقرار، وكأننا لا نستحق الاستفادة من منجزات الحضارة الإنسانية.