جميعنا نخشي الموت.. حقيقة لا يمكن لأحد أن ينكرها, بل يرفض البعض الحديث عنه خوفا وفي أحيان آخري تشاؤما أو ربما يثير لديهم ذكريات أليمة تتعلق بفراق أحد الأحبة, ولكن يبقي الخوف الأكبر في أوقات يفكر فيها في نهاية عمره هو فيصيبه القلق والانقباض خاصة إذا راودته أفكارا بشأن تلك اللحظات الأخيرة التي تسبق صعود الروح إلي بارئها.. ولكن.. ماذا لو اتخذ أحدهم قرار موته بنفسه ؟ ما الحديث الذي يدور بينه وبين نفسه ليخبرها أنه قرر أن يأتي بآخر أنفاسها ؟ وماذا عن ذلك الوقت الذي يرتب فيه شخص لطريقة إنهاء حياته بيده لينتقي بين الموت شنقا أو حرقا أو بتناول سم ؟.. ورغم أن حوادث الانتحار مستمرة ولا تتوقف ويقدم عليها أصحابها لأسباب مختلفة وبطرق أيضا متنوعة, إلا أن شهر سبتمبر كان له طابع غريب فقد شهد13 حالة انتحار بينها حالات تعمدت أن يسمع عنها الجميع, ويري طريقة موتها ربما للبحث وراء الأسباب التي ساقتهم لهذا المصير أو الإجابة علي تساؤلات كثيرة أهمها كيف تحول الموت لدي البعض إلي غاية تهون أمامها كل وسائل الحياة؟ رجل, سيدة وحتي طفلة.. راودتهم جميعا فكرة الانتحار وكذلك إصرارهم علي تنفيذها, وإن كانت المصادفة اجمعتهم لشهر واحد ليشهد هذا العدد من المنتحرين إلا أن لكل منهم أسبابه.. ف ممدوح فراج الفتي المنياوي البالغ من العمر17 عاما عاش معاناة الثانوية العامة أكثر من مرة وتكرر رسوبه, لينتهي به الأمر بإطلاق الرصاص علي نفسه يوم الخامس من سبتمبر وإنهاء حياته بمحض إرادته علي عكس ما عاشه أثناء سنوات الدراسة. أما رحمة علاء تلك الفتاة التي تبلغ من العمر13 عاما فقذ اختارت الموت سبيلا للخلاص من حياتها مع زوجة أبيها, حيث انتحرت شنقا بحبل يتدلي من شجرة أمام المنزل وذلك في السابع من سبتمبر. ومن المنيا أيضا اختارت السيدة أوعاد البالغة من العمر30 عاما أن تنهي حياتها بسبب مشاجرات مستمرة مع والدها, وقد تناولت كمية كبيرة من المبيد الزراعي, ومن نفس المحافظة رافقتها صفاء ولكن اختارت طريقة آخري حيث ألقت نفسها أمام القطار بعد مشاجرة مع زوجها الذي كان يشكو سوء الأحوال وعدم قدرته علي تلبية احتياجاتها والأسرة. وبسبب مرض نفسي انتحر الشاب المنوفي مصطفي مستخدما شفرة الحلاقة لقطع شرايين يده داخل حجرته, وانتحر آخر بإلقاء نفسه من الدور الخامس في العقار الذي يسكنه بسبب البطالة وعجزه عن العمل أو توفير مصدر رزق لأولاده, وفي نفس اليوم ومن المنيا أيضا أنهي علي حياته بطلق ناري حزنا علي وفاة والده. أما فرج فقد شاء قدره ألا ينال من اسمه نصيبا حيث عاش في ضيق وعسر وكانت تزداد حالته المادية سوءا يوما بعد يوم, وقد قرر فرج أن يعلن عن موته من خلال لوحة إعلانية علي طريق القاهرةالإسماعيلية واختار أن يتدلي بحبل أسفل منها, والسبب كما تبين بعد انتشار صورته والتحقيق في ملابسات الحادث أنه كان يعاني من ضائقة مالية بسبب مصاريف المدارس والعيد علاوة علي تراكم الديون عليه ليكتب نهايته ويعلن للجميع أن الفقر موتا علي قيد الحياة. وفي الدقهلية انتحر صلاح شنقا تاركا ورقة يقول فيه أنه انتحر ولم يوضح أي سبب لإقدامه علي هذه الخطوة, في حين ألقي موظفا بنفسه من طابق علوي بالمصنع الذي يعمل به وألقي آخر بنفسه أيضا من أحد المصانع بعد ضبطه متلبسا بالسرقة. وانتحر شاب شنقا داخل الشقة التي يقيم فيها في محافظة السويس بسبب عدم حصوله علي أي فرصة عمل, كل هؤلاء وربما أكثر لم تصل إلينا أخبارهم أقدموا علي الانتحار وأنهوا حياتهم في لحظة يأسوا فيها من تبديل الأحوال. وأخيرا وليس آخرا انتحر مجند في قوات الأمن المركزي الاثنين الماضي بشنق نفسه بسلك في منزله بمدينة الأقصر أثناء فترة أجازته. الحالة اكتئاب. والقرار انتحار اكتئاب و انطواء شديد ورغبة في الوصول للنهاية.. هذا هو ملخص اللحظات الأخيرة التي يعيشها كل من يقدم علي الإنتحار كحل وحيد وأخير أمامه, مؤشرات يفسرها خبراء النفس ويوضحون أسبابها وأعراضها وكذلك تفسير زيادة عدد الحالات التي حدثت علي مدي الأيام السابقة.. في البداية يقول الدكتور نادر فتحي قاسم- مدير مركز الإرشاد النفسي بجامعة عين شمس- أن الانتحار هو نهاية طريق الاكتئاب حيث يصل بالإنسان للتفكير في الحل العدمي حيث يري أنه لم يعد قادرا علي التعامل مع المحيطين به, مشيرا إلي أن النفس السوية تقوم علي مبدأ تفاوضي أي أنها تفكر دائما في البدائل والحلول عندما تواجهها أي مشكلة. ويوضح أن المنتحر لا يري أمامه أي نوافذ بل فيشعر أنها النهاية خاصة وأنه يكون قد وصل إلي الحالة الاكتئابية الحادة فلا يكون أمامه أي مجال للتفكير الموضوعي, مشيرا إلي أن الإنسان السوي يحاول دائما البحث عن حلول أما مصاب الاكتئاب فليس لديه تلك المرونة حيث يري أن الحياة كلها قد انحصرت في اختيار واحد بسبب تفكيره المضطرب وشعوره بأنه ليس لديه القدرة علي الوصول لحلول آخري خاصة وأن كل تفكيره ينصب حول ذاته, لتتحول الدنيا أمامه إلي خرم إبرة بسبب الضغوط النفسية عليه. ويستطرد قاسم حديثه مؤكدا أن هذه الحالات التي أودت بحياتها مؤخرا وغيرهم تصل بهم حالة الاكتئاب إلي درجة العجز حيث يشعرون بالعجز عن تجاوز الواقع المحبط أو الكئيب الذي أدي به إلي هذه الحالة. أما عن لجوء بعضهم لأساليب وطرق يشهدها الجميع كإلقاء الشخص نفسه في النيل أو مثلما فعل فرج الذي انتحر شنقا بحبل معلق علي لوحة إعلانية يفسرها- مدير مركز الإرشاد النفسي أن المنتحر يريد أن يشعر من حوله بالندم وكأنه يعاقب من حوله ويحملهم مسئولية ما وصل إليه لأنهم لم يشعروا به سواء في إطار الأسرة أو المجتمع المحيط به حتي وصل إلي هذا المصير علي حد تفكيره, مشيرا أن هذا ما يحدث بالفعل فالمصريون يجلدون أنفسهم ويلومونها دائما. ويقول الدكتور يسري عبد المحسن- استشاري الطب النفسي بطب قصر العيني جامعة القاهرة- أن معدل الانتحار خلال شهر لا يمكن أن تمثل ظاهرة خاصة أن هناك العديد من حوادث الانتحار التي لا يتم الإعلان عنها, وأشار إلي أن الظروف مهما كانت قاسية لا تدفع أحدا لهذا المصير إلا إذا كانت شخصية تعاني من خلل واضطراب ونفس مهزومة وضعيفة. ويوضح أن شخصية المنتحر تعاني من قصور شديد في التكوين النفسي, ويري أن لجوء بعض المنتحرين لتقليد بعضهم بعضا خلال فترة زمنية قصيرة كأن يلقي أحدهم بنفسه في النيل وتتكرر نفس الحادثة بنفس الصورة بعدها أكثر من مرة حتي لو محاولات فاشلة فإن هذا يؤكد انتشار فكرة العدوي بينهم فهو مجرد تقليد يقوم به ضعاف النفوس حيث يلفت نظرهم ويمس خللا بشخصيتهم. ويؤكد استشاري الطب النفسي بقصر العيني أن حاجة الإنسان أو ما نسميه العوز لا يمكن أن يؤدي بالإنسان لهذه النهاية ولكن المنتحر يكون لديه استعداد نفسي للاكتئاب النفسي الشديد فيفقد صوابه ويقدم علي هذه الخطوة.