لا يستطيع كائن التدخل في شئون حزب الوفد و مجادلته في أوضاعه الداخلية, و انتقاد اساليبه الحزبية في اتخاذ القرار, مهما كانت الملاحظات و الانتقادات التي يراها البعض تجاه هذا القرار أو ذاك, فالقرار الداخلي مسالة حزبية بحتة لا يجوز التعامل معها من الخارج. لكن قرار الانسحاب من جولة الإعادة لانتخابات2010 يخرج عن النطاق السابق, بل الواجب يقتضي المناقشة المستفيضة, كونه قرارا لا تتوقف نتائجه علي حزب الوفد فقط, و إنما تمتد تأثيراته و تداعياته علي مستقبل المشهد السياسي المصري بكل مكوناته و تفاصيله الرئيسية و الهامشية في آن. و من الصعوبة بمكان فصل الحالة الإنفعالية التي أحاطت بقادة حزب الوفد عقب إعلان نتائج الجولة الإولي من الإنتخابات عن مجمل مسار الجدل السياسي الذي أحاط بالمشهد السياسي المصري طوال الأشهر المنقضية من العام الجاري, خصوصا مع التغيرات الداخلية التي لحقت بقيادة الحزب, و الصراعات التي شهدتها البلاد من تجمعات و تحركات احتجاجية, ولدت لدي البعض تصورات سياسية خاطئة عن متغيرات جذرية متوقعة في التركيبة البرلمانية. و زاد من هذه التوقعات الخاطئة أحاديث و ترديدات لا تتجاوز مفهوم الشائعات عن صفقات سياسية بين حزب الوفد و الحكومة بمقتضاها يحل الحزب بديلا عن نواب ينتمون إلي جماعة الإخوان المسلمين يمثلون نحو18% من عضوية البرلمان, بل و تجاوزت الشائعات إلي مستوي تحديد الأسماء المدرجة علي قوائم الصفقة, وتعاملت معها الأطراف المعنية كحقيقة لا تقبل الجدل أو النقاش باعتبارها من مسلمات المنافسات الانتخابية. تواكب انتخاب قيادة جديدة لحزب الوفد مع أحاديث الصفقات, أتاح المجال واسعا للمزيد من التطمينات و التأكيدات بإمكانية تحقق الشائعات و إثبات صحتها, خصوصا و ان القيادة الجديدة من رجال الأعمال البارزين ذوي العلاقة الطيبة مع الدولة, و المستثمرين في واحدة من أصعب مناطق الإستثمار في مصر و هي سوق الإعلام المرئي عبر الفضائيات. حتي أن إقبال رئيس الوفد علي شراء صحيفة الدستور, و نجاحه في تحقيق الصفقة التي تداعي عنها مشكلات مع رئيس التحرير إنتهت إلي أقصائه عن منصبه و ما تولد عن ذلك من صراعات سياسية, تحول من مجرد صفقة تجارية إلي جزء من صراعات تصفية جيوب المعارضين السياسيين للدولة في الدولة, و إندرج رئيس الوفد ضمن قائمة المشاركين في تصفية الحركات الإحتجاجية و منها الدستور, و باتت عملية بيع و شراء الدستور جزءا من الصفقة السياسية المتداولة بين الوفد و الحكومة. المثير أن بلاغ رئيس الوفد السابق ضد الصحيفة التي نشرت حديث الصفقة, و الصحفي المسئول عن هذه الترديدات, تضمن جوانب تتعلق بتأثير المنشور علي أوضاع الحزب الداخلية, خصوصا فيما يتصل بتعامل الأعضاء مع الموضوع باعتباره واقعا قائما ينتظر التنفيذ في الإنتخابات المقبلة, بل أن رئيس الحزب الحالي أعلن انسحابه من صفقة بيع صحيفة الدستور خشية تأثر شعبيته و شعبية الحزب جراء ما تداعي عن الصفقة من مشاكل و انتقادات سياسية قد تلحق بسمعة الحزب و موقفه من مسالة حرية الرأي و التعبير, و تفاهمه مع الدولة في شأن الانتخابات البرلمانية المنتظرة. الموقف الإجمالي إذن كان يؤشر وفقا لمنطق التحليل الانطباعي السائد في مصر بين أغلب الجماعات السياسية إلي اتجاه حزب الوفد لحصد عشرات المقاعد في الانتخابات البرلمانية, و بما لا يقل عن خمسين و ربما ستين مقعدا, تجعل منه حزب المعارضة الرئيسي في البلاد, و المؤهل مستقبلا للتحول إلي الحزب الكبير الثاني في المنافسة علي أغلبية مقاعد البرلمان, وفقا لمفهوم الحزبين الكبيرين المتنافسين. المؤكد أن الانتخابات الداخلية لحزب الوفد و اختيار رئيس جديد في انتخابات تابعها الرأي العام بشغف بالغ, و أصبغ عليها الإعلام صفات و أجواء جعلت منها محط الاهتمام العام, و النموذج الجديد الذي تقدمه أحزاب المعارضة لإنهاء مرحلة تاريخية, و الدخول لمرحلة جديدة في مفاهيم الديمقراطية الداخلية للأحزاب و ما يتداعي عن ذلك من تأثيرات علي استمالة الناخبين, كل هذه المعاني بلورت حالة حزبية ناحية إتجاه الوفد لاحتمالات تحقيق أعلي نتائج انتخابية في تاريخه منذ عودته للحياة السياسية نهاية السبعينيات, حتي تلك التي حققها بنظام القائمة النسبية الحزبية العام1984, و لما لا و الحزب نجح في ضم نواب مستقلين من البرلمان رفعوا تمثيله من خمسة نواب إلي حوالي20 نائبا, بل تمكن من إجتذاب نجوم مجتمع من فنانين و رياضيين, دفع بهم للإنتخابات متوقعا فوزهم و بسهولة في المنافسات الإنتخابية. المفارقة أن قادة حزب الوفد و العديد من النخب السياسية سقطوا في دوامة التداعيات المفرحة للتطورات الأخيرة داخل الحزب, و نسوا أن ما أفسدته سنوات طويلة من المشاكل و الصراعات الداخلية, و الإبتعاد عن التواجد المتواصل مع الناخبين في دوائرهم, لا تصلحه نجاحات متحققة في شهور و إنما يحتاج إلي سنوات من إعادة البناء و الوجود بين الناس. وزاد من مشكلات حزب الوفد مع النتائج التي حققها مرشحوه في الجولة الأولي, تأكدهم من عدم فهم طبيعة الإنتخابات في مصر, و إنجرافهم للإعتقاد السائد بأن غضب الناخبين علي الأوضاع الإقتصادية السائدة يمثل أساسا موضوعيا لاستبعاد مرشحي حزب الأغلبية و إنتخاب معارضيه, كما سيطرت عليهم كما بدا من قوائم المرشحين, أن نجومية البعض في مجالات مختلفة مثل كرة القدم أو الفن أو حتي من خلال جلسات البرلمان في الرقابة علي الحكومة, كفيل في حد ذاته بضمان نجاحه في الإنتخابات التالية, متناسين أن طبيعة الإنتخابات الفردية, و المشكلات المترتبة علي إضمحلال دور المحليات, يدفع الناخب لإختيار المرشح القادر علي تقديم الخدمات له, أو المساعدة في حل مشكلاته اليومية, أو المنتمي للعائلة, إلي جانب مسببات أخري عديدة وراء الإختيار تتضاءل امامها مسألة البرامج السياسية أو النجومية و مدي الحدة في معارضة الحكومة. الأغلب أن قادة الوفد لم تحكمهم كل هذه العوامل و هم يتعاملون مع نتائج الجولة الاولي من انتخابات2010, قدر ما سيطر علي تفكيرهم وجود مخطط لإزاحة الحزب, و التقليل من شانه في إطار سعي حزب الأغلبية للاستحواذ علي البرلمان, و إزاحة المعارضة منه, تمهيدا للسيطرة المطلقة علي المشهد السياسي, من خلال عمليات تزوير واسعة النطاق, و تضييق علي المرشحين, خشية جماهيريتهم و شعبيتهم الهائلة التي تهدد مرشحي حزب الأغلبية, و تؤشر لإمكانية فقدانه السيطرة علي الأغلبية في البرلمان. قوة الدفع الهائلة التي حققها الوفد خلال الأشهر الأخيرة علي صعيد بنائه الداخلي, كانت هي العامل الأساسي في الأغلب الأعم, الذي زج به في شلال الإنسحاب من جولة الإعادة, متصورا أن مثل هذا قرار, كفيل بزيادة دائرة تأييده وسط الناخبين, و تعلية أسهمه الشعبية, بعيدا عن نطاق النخبة السياسية و الحركات الإحتجاجية, و هي نتائج غير متوقع حدوثها في سياق الرصد الدقيق و الموضوعي لقدرة هذه الحركات الاحتجاجية علي الوجود و التأثير الشعبي, و ربما خير دليل علي ذلك غيابها الكامل و انسحابها التام من المشهد السياسي المصري طوال فترة الإنتخابات, لعدم قدرتها علي التفاعل مع ما هو أبعد من الاحتجاج السياسي عبر التظاهر المحدود الأثر و إصدار البيانات السياسية. مشكلة الوفد الحقيقية الآن في تعامله مع تداعيات قرار الانسحاب من الانتخابات, خصوصا و أن العدد الأكبر من مرشحيه قرروا الاستمرار في جولة الإعادة و رفضوا الإنسحاب, ليس ثقة منهم في الفوز حسب ما أعلنوا و إنما التزاما منهم تجاه الناخبين الذين ساندوهم في أجواء بالغة الصعوبة, و لا يمكن التخلي عنهم لمجرد موقف سياسي من الحزب, الذي مازال بعيدا تماما عن أجواء القدرة علي السيطرة علي ناخبيه و أنصارهم و توجيههم وفقا للموقف السياسي السائد. و تتجاوز مشكلة الوفد هذه النقطة, إلي ما هو أعلي, إذ ان حزب الوفد وفقا لتاريخه الطويل حزب برلماني, ينتعش و يتفوق من خلال أدائه البرلماني, ومن خلال وجود ممثليه في المؤسسة التشريعية, و هو لم يكن يوما من أحزاب و جماعات الحركات الاحتجاجية القادرة علي التنفس من خلال منافذ محدودة القدرة و التأثير, و هي المعاني التي دفعت بمؤسس الوفد الجديد الراحل فؤاد سراج الدين للإعتراف بخطأ قرار الإنسحاب من انتخابات العام1990 و تعهده بعدم تكرارها مرة أخري. ربما يري البعض أن الأجواء السائدة الأن مغايرة لما كان قائما قبل20 عاما, وهو منطق لا يخلو من الوجاهة, لكن الظرف الذاتي لحزب الوفد لم يتغير كثيرا, سواء من حيث طبيعة عضويته و تركيبتها الإجتماعية و الثقافية, أو من حيث هيمنة أصحاب الأعمال المنحازين للفكرة الليبرالية علي قيادته, و هي العوامل التي تجعل من الصعوبة بمكان تغيير طبيعة الحزب و توجهه السياسي لينضوي تحت عباءة و مفاهيم و أدوات حركات الاحتجاج السياسي, أو يدخل في نوع من أنواع التحالف أو التنسيق الطويل المدي مع جماعة' الإخوان المسلمين'. إعتقادي أن قيادة الوفد ستعاني من مأزق داخلي سيترك آثاره علي المدي البعيد, فقادة الحزب مطالبون الآن بالتعامل مع مرشحيهم الذين سيكسرون قرار الحزب و يخوضون جولة الإعادة, و مطالبون بقرارات أمام الرأي العام تؤكد استمراراهم في موقفهم بتوقيع العقاب علي المخالفين, و في الوقت ذاته مطالبين بإعادة النظر في إستراتيجيتهم و أساليبهم التاريخية في التعامل مع الناخبين و في أسس و قواعد المدرسة الحزبية التي رسخها الحزب عبر سنين طويلة في ثقافة و نفوس مؤيديه و أنصاره. [email protected]