مرة أخري, ولكن في ملف وقضية مختلفة من ملفات الإخوان السرية, اغتيال القاضي الخازندار, نلجأ إلي شهادات الإخوان أنفسهم وما سطروه بأقلامهم, كوادر وكتاب عاشوا تلك الحقبة وكانوا فاعلين رئيسيين فيها, كتبوا شهاداتهم علي الأحداث دون ضغط او تدخل من أحد فأدانوا الجميع بما في ذلك المرشد المؤسس حسن البنا نفسه, وفي هذه القضية نتناول ما سطره عدد من قادة التنظيم الخاص لجماعة الإخوان( الجناح العسكري للجماعة) بعد أربعين عاما من الحادث, وهم علي الترتيب الدكتور عبدالعزيز كامل في كتابه في نهر الحياة الطبعة الأولي المكتب المصري الحديث وأحمد عادل كمال النقط فوق الحروف الإخوان المسلمون والنظام الخاص الطبعة الأولي الزهراء للاعلام العربي. بالإضافة إلي شهادة أحمد مرتضي المراغي آخر وزير داخلية قبل الثورة وكان يشغل آنذاك منصب مدير الأمن العام, التي حوتها مذكراته المعنونة غرائب من عهد فاروق وبداية الثورة المصرية الطبعة الأولي مكتبة دار الشروق. دم الخازندار: ولأن نور الشمس يراه حتي من كان به رمد, فسوف نبدأ بشهادة الدكتور عبد العزيز كامل الذي حضر ما اطلق عليه( محاكمة عبدالرحمن السندي) عقب مقتل الخازندار. يقول الرجل في ص45 وتحت عنوان دم الخازندار: في صبيحة هذا اليوم( يقصد يوم مقتل القاضي الخازندار في الثاني والعشرين من مارس1948) بينما كان المستشار أحمد الخازندار( بك) في طريقه من منزله في حلوان إلي عمله, عاجله اثنان من شباب الإخوان بإطلاق النار عليه فأردياه قتيلا, وأمكن القبض علي الاثنين: محمود زينهم وحسن عبدالحافظ. وكان للحادث دوي عميق, تصارعت فيه تيارات فكرية متعددة, فقد أعاد إلي الأذهان مواقف الخازندار من قضايا سابقة أدان فيها بعض شباب الإخوان لاعتدائهم علي جنود بريطانيين في ناحية الإسكندرية, وحكم علي الشابين بالأشغال الشاقة المؤبدة في22 نوفمبر عام1947, ولكن اطلق سراحهما لعدم كفاية الأدلة.. ولم يكن الخازندار محبوبا, او حتي موصوفا بالحيدة بين الإخوان, فبينما يرون عملهم وطنيا ودينيا, كانوا يرون موقف الخازندار موقفا قضائيا متعسفا. ولا أود ان أسرد الوقائع كلها هنا, ولكن أود ان أسجل جلسة خاصة شهدتها في المركز العام للإخوان المسلمين, برئاسة الاستاذ البنا, وحضور النظام الخاص في هذا الموضوع. وأسجل هنا ما تعيه ذاكراتي من أحداث هذه الليلة البعيدة. وسنري كيف تتغير المشاهد في الذهن وتعاد صياغتها, ويرويها صاحبها معدلة, وهو يؤمن أنها الحقيقة التي شاهدها, وهذه هي حكمة الشاهدين والأربعة شهود في الإسلام. رواية عبدالعزيز كامل: كنت في ربيع عام1948 مدرسا في معهد المعلمين في أسيوط, وبعد مصرع الخازندار, جاءتني رسالة عن اجتماع عاجل مع الاستاذ المرشد في القاهرة واستأذنت عميد المعهد الاستاذ عبدالعزيز سلامة في السفر, ولم أكن أغيب عن عملي او اعتذر, ونظر إلي نظرة طويلة, ووافق علي السفر في هدوء دون أن يسأل, وإنما طلب مني أن احدد أيام الغياب, ولم أستطع فقال: سأحتفظ بخطاب الاستئذان عندي حتي عودتك, وأرجو ان تكون قريبة, وان تطمئن علي الأهل, وكن حريصا والله معك. ويستمر الرجل في روايته فيذكر في ص46 كان بإحساسه الداخلي( يقصد مدير المدرسة) يشعر بأن الأمر متعلق بالإخوان بعد مصرع الخازندار, والكل يتحدث ويعلق, القضاة, المحامون, رجال التعليم, ومهما يكن من أمر الآراء التي تشعبت, فإنها كانت تلتقي عند إدانة الإخوان, واستنكار الحادث, فقد كان عدوانا سافرا علي القضاء. وكانت عودتي إلي القاهرة مفاجأة للأهل.. أمي واخوتي ولزمت الصمت, وذهبت إلي المركز العام. كان الاجتماع في حجرة المكتبة بالدور الثاني, هذه المكتبة التي تبرع بجزء كبير منها سمو الأمير محمد علي توفيق ولي العهد وقتئذ, علي أثر كلمات طيبة من سليمان متولي( بك) مراقب عام المدارس الأميرية, فأرسلها مكتبة كاملة بخزانات الكتب.. وكانت هذه الحجرة بالذات اقرب الحجرات إلي فكري وقلبي وكم قضيت فيها الساعات قارئا باحثا, او متحدثا مع أعضاء قسم الأسر. ولكن هذه الجلسة كانت ذات طبيعة خاصة, ولعلها من أعمق جلسات الإخوان اثرا في نفسي, ومازلت أذكر الاستاذ( يقصد الاستاذ حسن البنا) وجلسته, وعليه يبدو التوتر.. أراه في حركة عينيه السريعة, والتفاته العصبي, ووجهه الكظيم, وإلي جواره قادة النظام الخاص عبدالرحمن السندي رئيس النظام, وكان لا يقل توترا وتحفزا عن الاستاذ, ثم أحمد حسنين, ومحمود الصباغ, وسيد فايز, وأحمد زكي, وإبراهيم الطيب, ويوسف طلعت, وحلمي عبدالمجيد, وحسني عبدالباقي, وسيد سابق, وصالح عشماوي وأحمد حجازي, ومصطفي مشهور, ومحمود عساف. كان محور الحديث مصرع المستشار أحمد الخازندار. قال الاستاذ: إن كل ما صدر منه من قول تعليقا علي أحكام الخازندار في قضايا الإخوان لو ربنا يخلصنا منه أو لو نخلص منه أو لو واحد يخصلنا منه لاحظ مطلب البنا يوجهه لقائد النظام الخاص عبد الرحمن السندي), معني لا يخرج عن الأمنية, ولا يصل إلي الأمر, فالأمر محدد, وإلي شخص محدد, وهو لم يصدر أمرا, ولم يكلف أحدا بتنفيذ ذلك, ففهم عبد الرحمن هذه الأمنية أمرا واتخذ اجراءاته التنفيذية, وفوجيء الاستاذ بالتنفيذ. ويضيف كامل في ص47: حدثني الصديق الاستاذ مختار عبد العليم المحامي, أن الأستاذ في صلاة العشاء مساء الحادث سها في عدد الركعات وصلي الفرض ثلاث ركعات, وأكمل ركعة السهو. وما أذكر طول صلاتي مع الاستاذ انه سها مرة... وعلم الاستاذ مختار بهذا ممن كان مع الاستاذ في صلاته. وسمعت منه أيضا أن الدكتور عزيز فهمي المحامي قابله في المركز العام فوجد الاستاذ جالسا في حجرة منعزلة, وحيدا واضعا رأسه بين يديه في تفكير عميق, وألم لم يستطع اخفاءه, وهو ناقم أشد النقمة علي الحادث. وما أذكر أن الاستاذ عقد مثل هذا الاجتماع طوال حياته في الاخوان بهذه الصورة.. وكان واضحا أن الخلاف شديد بين المرشد وعبد الرحمن, فأمام كبار المسئولين, سيبدو إن كان الاستاذ قد أمر, أو أن عبد الرحمن تصرف من تلقاء نفسه, وفي ماذا؟ في قتل المستشار, وتسجيل عدوان دموي علي القضاء في مصر. المرشد والسندي يلقيان الاتهام كل علي الآخر: ووجهت حديثي إلي الاستاذ قائلا: أريد من فضيلتكم اجابة محددة بنعم أو لا علي اسئلة مباشرة لو سمحتم. فأذن بذلك فقلت: هل أصدرت فضيلتكم أمرا صريحا لعبد الرحمن بهذا الحادث؟ قال: لا قلت: هل تحمل دم الخازندار علي رأسك وتلقي به الله يوم القيامة؟ قال: لا قلت: إذن فضيلتكم لم تأمر ولا تحمل مسئولية هذا أمام الله. قال: نعم فوجهت القول إلي عبد الرحمن السندي, واستأذنت الاستاذ في ذلك فأذن. ممن تلقيت الأمر بهذا؟ فقال: من الاستاذ( يقصد المرشد حسن البنا). فقلت: هل تحمل دم الخازندار علي رأسك يوم القيامة؟ قال لا. قلت: وهذا الشباب الذي دفعتم به إلي قتل الخازندار من يحمل مسئوليته؟ والاستاذ ينكر وانت تنكر, والاستاذ يتبرأ وانت تتبرأ. أمنية المرشد أمر واجب النفاذ: ويواصل كامل في ص48 قال عبد الرحمن: عندما يقول الاستاذ انه يتمني الخلاص من الخازندار, فرغبته في الخلاص أمر منه. قلت: مثل هذه الأمور ليست بالمفهوم أو بالرغبة واسئلتي محددة, واجاباتكم محددة, وكل منكما يتبرأ من دم الخازندار, ومن المسئولية عن هذا الشباب الذي أمر بقتل الخازندار. ولايزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يلق الله بدم حرام, هذا حديث رسول الله. ثم قلت له: والآن هل تترك المسائل علي ما هي عليه, أم تحتاج منك إلي صورة جديدة من صور القيادة, وتحديد المسئوليات؟ قال:( يقصد المرشد العام حسن البنا) لابد من صورة جديدة وتحديد مسئوليات. واستقر رأيه علي تكوين لجنة تضم كبار المسئولين عن النظام, بحيث لا ينفرد عبد الرحمن برأي ولا تصرف, وتأخذ اللجنة توجيهاتها الواضحة المحددة من الاستاذ, وأن يوزن هذا بميزان ديني يقتضي أن تكون من بين أعضائها بالاضافة إلي أنها تتلقي أوامرها من الاستاذ رجل دين علي علم وإيمان, ومن هنا جاء دور الشيخ سيد سابق ميزانا لحركة الآلة العنيفة. وكانت هذه هي المرة الأولي التي يجلس فيها عبد الرحمن مجلس المحاسبة والمؤاخذة أمام الاستاذ وقيادات النظام, بل لعلها المرة الأولي التي يجلس فيها الاستاذ أيضا مجلس المواجهة الصريحة أمام نفسه وأمام قادة النظام, إلي الدرجة التي يقول فيها لعبد الرحمن( يقصد حسن البنا): أنا لم أقل لك, ولا أحمل المسئولية. وعبد الرحمن يرد: لا أنت قلت لي وتتحمل المسئولية ويتبرأ كل منهما من دم الخازندار, ويخشي أمر أن يحمله علي رأسه يوم القيامة. وانتهت الجلسة.. وعدت إلي المنزل... ولا تعليق منا, فالكلام لا يحتاج إلي تعليق, وإلي لقاء في الحلقة القادمة