لن أضيف شيئا عندما أكتب ان طريق ماريوفارجاس يوسا إلي نوبل لم يكن سهلا, وأغلب الظن أن نوبل لم تكن من بين أهدافه, شأنه شأن الكبار لم يكتب فقط عددا كبيرا من الأعمال الروائية الشامخة, بل ان نشاطه امتد هنا وهناك, ومن بين هذه النشاطات اهتمامه بشباب الكتاب الي الحد الذي دفعه لكتابة دراسات نقدية عميقة لإثارة الاهتمام حول أعمال روائيين كبار مثل فلوبير وبروست وكافكا وبور خيس وجيمس جويس, فضلا عن عشر رسائل مشهورة كتبها خصيصا كتاب الشباب, واختارت دار أزمنة الأردنية أن تصدرها قبل حصول يوسا علي نوبل مع رسائل أخري سبق أن كتبها الشاعر الألماني رايز ماريار ريكله(1875 1927) ووجهها أيضا لشباب كتاب عصره, وترجم الرسائل الكاتب المغربي أحمد المديني. يفترض يوسا كاتبا ناشئا يوجه اليه الحديث, ويتأمل تجربته الذاتية ويقلبها علي وجوهها المختلفة, مقارنا بينها وبين تجارب روائيي عالمنا, ليصل الي استنتاجات بالغة الأهمية والعمق معا. فعلي سبيل المثال يري يوسا أن الجوائز التي يحصدها الكتاب والعرفان العام الذي يحصل عليه والتوزيع المرتفع بل والامتياز الاجتماعي.. كلها أمور قد تكون سهلة المنال, إلا أنه يجب عدم الخلط بين الموهبة الأدبية والمنافع الأدبية حسب تعبيره, ويقرر أنهماامران مختلفان واجتماعهما معا نادر بل شديد الندرة. بدلا من ذلك يقترح يوسا التوفر علي الموهبة باعتباره أفضل مكافأة للكاتب ويضيف: واذا كنت غير متيقن تماما من مسألة الموهبة الأدبية, فإنني أملك علي الأقل هذا اليقين المتمثل في أن الكاتب يؤمن عميقا بأن الكتابة هي أفضل مايمكن أن يحدث له, ذلك أنها الطريقة المثلي بالنسبة اليه للعيش, بصرف النظر عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي قد يتعرض لها. يتخذ يوسا من الموهبة نقطة انطلاق ليحاول الاجابة عن ذلك السؤال الخالد: كيف يصبح الواحد منا كاتبا؟!.. واذا كان يرفض التفسير الأسطوري الذي يري أن الكاتب يتميزبقدرة خارقة ويأتيه الالهام من السماء,فإنه في الوقت نفسه لايوافق علي ذلك التفسير الذي كان قد اقتنع به في شبابه, وهو أن الموهبة اختيار وحركة حرة للارادة الفردية. وبدلا من ذلك يقترح تفسيرا مضمونه أن المرأة والرجل يظهر لديهما مبكرا في الطفولة أو عند المراهقة نوع من الاستعداد لتخيل أشخاص وحالات وحكايات وعوالم مختلفة أدبية, لكنه يستدرك سريعا ليؤكد أن هذا النزوع للابتعاد عن العالم الواقعي. بممارسة الكتابة الأدبية ليس أمرا سهلا إنما هوة لايستطيع الجميع تخطيها. يتساءل يوسا: من أين يأتي هذا الاستعداد لتخيل حكايات وعوالم مختلفة؟ والاجابة أكثر من مذهلة: هذا الاستعداد يكمن في التمرد, فالكاتب في إبحاره بعيدا عن الواقع يعبر علي نحو غير مباشر عن رفضه النقدي للحياة والعالم الحقيقيين, الصراع مع الحقيقة والواقع هو سروجود الأدب, واذا كان التخيل وهما, فإنه ينطوي علي حقيقة عميقة: انها الحياة التي لم تتم, رغبنا فيها ولم نستطع الحصول عليها, ومن هنا نشعر بضرورة ابتداعها, لعبة الأدب اذن ليست لعبة مسالمة, لأن التخيل رد فعل لعدم الرضا والقلق ازاء العالم الواقعي بهذا المعني فإن الموهبة الأدبية ليست تمضية وقت فراغ أو لعبة نمارسها في الوقت الضائع..أنها انشغال له الاولوية المطلقة التي تصل الي حد السخرة! لايتوقف الروائي الكبير عن طرح الاسئلة القلقة. ففي رسالة تالية يتساءل: من أين تأتي الحكايات التي ترويها الروايات؟ وهو سؤال يطرحه يوسا علي نفسه قبل أن يطرحه علي ذلك الكاتب الناشئ المفترض, ويحاول الاجابة عليه مشيرا إلي أن جذر كل حكاية هو تجربة كاتبها, ولايعني هذا أن الرواية دائما نوع من السيرة الذاتية, ولكن في كل عمل أدبي تكمن تلك البذرة الحميمة اللاصقة بحياة المبدع, مؤكدا أنها قاعدة بلا استثناء تقريبا فيما يتعلق بعلاقة الكاتب بسيرته الذاتية. وليوضح مايعنيه يفترض يوسا وجود راقصة نعم راقصة تنزع عنها ثيابها قطعة قطعة لتعري جسدها أخيرا, بينما يفعل الروائي عكس هذا تماما, أي أنه يغطي ويخفي روايته تحت طبقات من الثياب المختلفة الألوان. من جانب آخر يؤكد أن الروائي لايختار موضوعاته, بل هي التي تختاره إنه يكتب عن بعض الأمور لأنها ببساطة حدثت له. فمارسيل بروست في عمله الفذ البحث عن الزمن الضائع خير مثال علي الكاتب الذي استطاع من خلال الاستبطان والغوص في ماضيه تحويل عناصر جد عادية أو توافقية من وجوده الي بساط بديع وتمثيل فاتن للوضع الانساني, منظورا إليه بوعي ذاتي يزدوج ليلا ليلاحظ نفسه من خلال وجوده هو واذا كانت حياة الكاتب هي نقطة الانطلاق, فالمؤكد إنها لن تكون نقطة الوصول.. ان الرواية عندئذ تستقل بنفسها وتكتب وجودا خاصا, والرواية التي لاتتحرر من مؤلفها فاشلة. مهموم يوسا إذن بإعادة طرح ماسبق, واخضاعه للمساءلة وعدم الخضوع لما تم الاستقرار عليه.. هناك من يتحدث مثلا عن معني الأصالة التي تتردد عند الكثيرين بمبرر وبدون مبرر فالتخيل في الأصل خداع. ان كل رواية هي كذب يصطنع الحقيقة, وتكمن قوة اقناع الرواية في استعمال الكاتب لتقنيات ايهامية وشعوذية تكاد تشبه أعمال الحواة!..كيف يمكن اذن الحديث عن الأصالة؟ ويجيب: يمكن بشرط ألايكتب إلا عما يتغلغل في أعماقه, إلا مايتملكه ويستثيره. وعموما لا أهمية للموضوعات التي يختارها الكاتب في حد ذاتها, الأهمية الوحيدة هي كيف يطرحها الكاتب ويعبر عنها..وفي رسالة أخري الي الكاتب الناشئ المفترض يؤكد أن الفصل بين الشكل والمضمون في الرواية مصطنع لايمكن الفصل إلا في الأعمال الرديئة فقط, بينما عمل مثل موبي ديكلهرمان ملفيل أو دون كيخوته لسيرفانتس لايمكن الفصل بين شكل كل منهما ومضمونه, لأنهما بواسطة فعالية الشكل ينطويان علي سلطة اقناع لاتقهر..وفي هذا السياق او كما ورد في رسالة تالية,فإن اللغة الروائية لايمكن فصلها عما ترويه الرواية وعن موضوعها وليس مهما السلامة اللغوية والنحوية, بقدر أهمية تماسك الأسلوب الذي قد يكون غير ممتع, لكنه فاعل منسجم. يطالب يوسا الروائي الناشئ بأن يقرأ كثيرا وينسي, حتي لايقلد أساليب الروائيين الذين يحبهم.. قد يقلدهم في الدقة والانضباط والمعتقدات أما الاستنساخ الآلي للصور ولأنماط الكتابة فهو هلاك للكاتب.. فلوبير مثلا الروائي الفرنسي الشهير وصل به الامر حتي يعثر علي أسلوبه الخاص أن يخضع كل جملة لامتحان الزعيق: أي يتجول في ممرات بيته وهو يقرأ بأعلي صوت ماكتبه, وتخبره اذنه ما اذا كان ماكتبه مناسبا وخاصا به أم لا.. علي هذا النحو يمضي يوسا ليناقش الروائي الناشئ المفترض في كل شيء يمكن اعتباره بديهيا أو متفقا عليه مثل الزمن ومستوي الحقيقة أو السارد أو الفضاء الروائي ليخرج باستنتاجات مختلفة ومبررة, ينحاز فيها لتجربته الشخصية. وفي النهاية, فإن مايفصل بين الكاتبين ريكله الذي ترجمت رسائله الي الكاتب الشاب في الكتاب نفسه, وبين يوسا, تاريخ يمتد لأكثر من قرن من الزمن, كما يفصل بينهما المكان, فأحدهما جاء من أقصي شمال الكون من ألمانيا, والثاني من أقصي الجنوب الغربي بيرو, بل ويفصل بينهما أيضا النوع الأدبي, فأولهما شاعر والثاني ناثر.. ومع كل هذه الاختلافات اتفقا في تفاصيل عديدة فيما يتعلق بتلك التجربة الشديدة الخصوصية والعصية عادة علي الانقياد للتسجيل إلا فيما ندر, وهي تجربة الابداع الفني: أي كيف نكتب ولماذا ومن أين نستقي تجاربنا أو نستلهمها؟ هل هناك أهداف مضمرة للكاتب, وكيف يعرف أنه كاتب أصلا وكيف يثق في كونه كاتبا, وماهي العناصر التي تشكل تجربته وثقافته, وهل يستفيد الكاتب من تجربته الشخصية كفرد في مجتمع أم يتقنع خلف أقنعة التاريخ والجغرافيا؟ إما لماذا اتفق كل من ريكله ويوسا علي الرغم من كل هذه الاختلافات فهذا لأن تجربة الابداع هي التجربة ذاتها ولاتختلف إلا في التفاصيل, لكن هذا حديث أخر وله مجال مختلف.