يبدو أن واقعنا السياسي والثقافي أضحي ثريا بخبرات نادرة في إطلاق ترددات تشتيت الانتباه وموجات التشويش علي الحقائق في معظم قضايانا الجادة التي تطرحها عمليات التغيير والتطور الحادثة في مجتمعنا المصري وهي آلية يستخدمها فصيل من المعارضة ينظر لنفسه بإعتباره قائد ثورة قلب موازين المجتمع وحامل معول هدم النظام السياسي وهدفها اختطاف النقاش العام والذهاب به الي تفصيلات فرعية بعيدا عن صلب القضية. وقد استعانت الحركات الاحتجاجية والتنظيمات غير الشرعية بخبراء التشويش خلال السنوات الخمس الماضية للتغطية علي عجزها عن وضع تصور لمستقبل مابعد هدم النظام أو للتعمية علي تصوراتهم العشوائية لمستقبل البلاد. بيد أن المحصلة النهائية لإستخدام ترددات التشويش في المجال السياسي تجسدت في زعامات سياسية أشبه بالفقاعات لخص كل منها في تصغير مهين قضية الوطن. المشهد ذاته يتكرر بكل تفاصيله في الواقع الصحفي منذ تفجرت قضية نقل ملكية جريدة الدستور, وان بدت أحداثه أكثر غموضا. فحتي الآن لم يفصح الطرفان عن الأسباب الحقيقية للشقاق الذي حدث بينهما, حيث سارع المالك الجديد الي تبريره بإعتراض الصحفيين ورئيس التحرير علي دفع ضريبة الدخل وهو لايبدو منطقيا في ظل رفع اجور الجميع كما أعلن الي300% بينما روج رئيس التحرير والصحفيون أن رفض المالك الجديد نشر مقاله الدكتور محمد البرادعي هي القشة التي قصمت ظهر البعير الا أن نشر المقالة في صدر الصفحة الأولي دحض ذلك الادعاء, ومهما كانت أسباب الخلاف فإن قضية أساسية طفت علي سطح الواقع الصحفي الجديد الذي إنتشرت فيه صيغة الشركات المساهمة المطروحة للبيع والشراء وهي مدي أحقية المالك الجديد لصحيفة صدرت بالفعل لسنوات عديدة بصبغة تحريرية محددة في تغيير تلك الصبغة ورسم سياسة تحرير مغايرة تماما. وبدلا من أن ننشغل ببحث هذه القضية نشط خبراء التشويش في إطلاق موجات تشتيت الانتباه العام عن جوهر الموضوع وصرنا إزاء ثنائية بدت وحيدة في النقاش الدائر طرحت وجهتي نظر تمضي كل منهما في طريق مواز للأخري. وتتمثل وجهة النظر الأولي في انتزاع حق المالك الجديد في تغيير سياسة التحرير بشكل مطلق, بينما رأت الثانية أن للمالك الحق المطلق أيضا في اعادة صياغة سياسة تحديد الجديدة التي إشتراها. وبين ثنائية النقيضين غاب نقاش معمق كان أولي بالخوض فيه بهدف وضع قواعد واضحة تضع حدودا لتدخل المالك في تغيير سياسة تحرير جريدة قائمة بالفعل بما يحفظ له حق التدخل دون المساس بالصورة الذهنية والتي ترسخت عن الصحيفة لدي قارئها طوال سنوات ورغم مايبدو من صعوبة في التوصل لمثل تلك القواعد الا أن النقاش الهادئ قد يقودنا الي نقطة تلاق. وظني أن مكمن تلك المعضلة هو جنوح ملاك الصحف ورؤساء تحريرها عن صيغتها الأساسية التي كانت تفترض فيها قدرا من الاستقلال حيث طغت علي مادتها التحريرية مصالح المالك بشكل جعل وصفها بالخاصة هو الوصف الدقيق, كما أن إصرار بعض رؤساء تحريرها علي صبغها بألوان المعارضة جعلها وكأنها صحف حزبية وهو الأمر الذي من شأنه أن يعقد المسألة حيث تنتقل ملكية هذه الصحيفة أو تلك من رجل أعمال الي آخر, وإن كنت أري في النقاط التسع التي توصل نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد مع الملاك الجدد لجريدة الدستور الي إتفاق حولها أساسا جادا لبدء النقاش حول هذه الأوضاع المعقدة. لكن وكالعادة يبدو أن فرصة الدخول في هذا النقاش ستضيع هي الأخري فخبراء التشويش حولوا القضية من مسارها الصحيح وألبسوها زورا لباس السياسة مبتعدين بها عن جوهرها المهني المرتبط بالواقع الصحفي الجديد بل أن أحدهم كتب معلقا حول سبب الأزمة الحقيقي قائلا ان رئيس تحرير الصحيفة إبراهيم عيسي لم يكن مجرد معارض للحكومة ومجلس الوزراء ولكن داعيا ومناضلا من أجل تغيير النظام السياسي المصري وكأن النظام السياسي في المريخ هو الذي منح الرخصة للشركة المساهمة التي أصدرت الدستور وهو الذي قلص أعداد المساهمين في شركات الصحف من مائة مساهم الي عشرة مساهمين فقط. الأغرب في هذه القصة إفتتاح إبراهيم عيسي كلمته في التجمع الذي شهدته نقابة الصحفيين تحت عنوان لنا دستور ولكم دستوركم بعبارة نضالي لا مهني إحنا الصوت لما تكون الدنيا سكوت وهو الرجل الذي دعا المالك الجديد لشراء الدستور لإنقاذها من عثرتها المالية بدا محرضا للصحفيين علي المقاومة والاستبسال في وجه الرأسمالية المتوحشة وهنا نطرح سؤالا بديهيا أين كان وصف المتوحشة عندما كان أجر الأستاذ إبراهيم عيسي25 ألف جنيه شهريا بينما لايتجاوز أجر الصحفي الذي يدعوه الآن للمقاومة ال500 جنيه شهريا أيضا, ولماذا لم يظهر هذا التوجه الاشتراكي في تلك الظروف. خبراء التشويش لم يلجأوا فقط لشخصنة قضية مهنية ورهنها بشخص إبراهيم عيسي وإنما لجأوا أيضا لمعايرة رجل الأعمال دكتور السيد البدوي الذي لم ينف عيسي دعوته لشراء الدستور بأن مصدر ثروته من الأدوية وكأنه تاجر مخدرات. مجمل القول لاينبغي أن تكون هذه الجلبة الحادثة في نقابة الصحفيين معرقلا لإقامة نقاش جاد وهادئ بين الجماعة الصحفية شيوخا وشبابا لبحث مستجدات الواقع المهني والنظر بعين مستقبلية لإعادة صياغة القانون المنظم للصحافة بما يخدم المهنة أولا وأخيرا دون الدخول في مهاترات سياسية ساذجة والانزلاق وراء ثرثرة محترفي التشويش علي قضايانا الحقيقية.