اختار اسم الولاد دول عنوانا لما أكتبه عن الفيلم التسجيلي جلد حي, في معارضة لفيلم تهاني راشد البنات دول الذي أثار جدلا, ولم أحبه, لأسباب كثيرة, أولها زاوية الرؤية.. الرؤية الإنسانية لا الفنية, للناس الذين نريد أن نجعلهم موضوعا لأفلامنا, فمن الرؤي ما يحنو ويطبطب, وينظر إلي الناس من الداخل, بقدر من الشفقة والحب وليس التعاطف, ومن الرؤي ما ينظر من السطح نظرة لا تتجاوز الظاهر, وتفرح بعملية القنص, كما هو الحال في رؤية المستشرقين لمجتمعاتنا منذ تأسس علم الاستشراق إلي الآن. وتسيطيع أن شاهد أفلاما مثل أحلام هند وكاميليا لمحمد خان, وليه يا بنفسج لرضوان الكاشف, وأرض الأحلام لداود عبد السيد, وتحب أبطالها, و تفهم ضعفهم الإنساني, ونبلهم في مواجهة قدر لا يرحم. لن تشعر بأن المخرج يستبيح فقر الناس, أو يتاجر بهم في استعراض استشراقي كما هو الحال في فيلم حين ميسرة لخالد يوسف. توجد كاميرا محبة, وأخري تمارس عنفها غير الفني, مع سبق الإصرار والترصد, انطلاقا من تصور معد سلفا, تمهيدا للتصدير. العين الاستشراقية تدعوك إلي الفرجة, لا المشاهدة, وتستبيح الناس بهدف التجارة. في فيلم جلد حي عبور إلي ما وراء سور مجري العيون, ولك أن تسأل نفسك: كم مرة مررت به, أو وقفت أمامه, وتساءلت: أي عالم يخفي وراءه؟ لعل هناك مسلسلا تلييفزيونيا اسمه سور مجري العيون, ولكنه شأن الدراما الأفقية, اتخذ واجهة مشهورة للكلام عن أي كلام. أما فيلم جلد حي فينفذ عبره المخرج فوزي صالح إلي ما تحت الجلد, إلي الضمير, يهزك ويزعجك, ويدفعك للتساؤل عن مصائر مئات من الأطفال العاملين في مهنة الدباغة, وكيف يتوارث الفقراء مهنة صعبة لا تمنحهم أملا, فلا تأمينات ولا معاش, فضلا عن توقع الخطر في أي لحظة. يختفي المخرج ويمنح الأطفال خلال56 دقيقة فرصة ليتصدروا المشهد, ليكونوا في الصورة, والصورة قاتمة, لعل كاميرا فوزي صالح هي الأولي, روائيا وتسجيليا, في اقتحام هذا العالم, فخلف السور توجد الصناعة, دنيا أخري تختلط فيها الحياة بالفقر بالجهل, وتجفف جلود الحيوانات, قبل أن تخضع لسلسلة من العمليات الفنية, قبل أن تصبح مواد صالحة للارتداء, بدون أن نفكر فيما بذل فيها من جهد, وكم إصبعا لتهمتها الآلة والعامل المسكين يؤكد أن نسبة المخاطرة أمام أسنان هذه الآلة تبلغ90 في المائة, وليس50 في المائة فقط. الورش مقامة في أرض زلقة, كأنها طين وما هو طين, فالمياه الناتجة عن عمليات دبغ الجلود في مراحلها المختلفة تصب في أزقة وشوارع ضيقة, تسير فيها عربات الكارو, أو يخوض فيها الأطفال الحفاة, وهي أوحال تحمل مواد كيماوية قاتلة, منها بقايا حامض الكبريتيك المركز مية النار, وتسبب أمراضا جلدية وصدرية, وكان في نهاية الفيلم مشهد دال والأطفال في نزهة نهاية الأسبوع يمرون بمستشفي السرطان.. هنا المآل المنتظر. وهذا ما دفع كثيرين من الذين حضروا العرض مساء أمس الأربعاء في مهرجان أبو ظبي السينمائي للسؤال: هل يوجد هؤلاء في القاهرة حقا؟ ويجيب الفيلم بأنهم أصبحوا في قلب القاهرة. كانت منطقة مجري العيون في أطراف مصر القديمة, أيام كان اسمها مصر عتيقة, وبعد أن تمددت القاهرة, وتوحشت لتبتلع نحو عشرين مليونا من البشر, اتسع العمران أيضا, لتصبح هذه المنطقة في قلب القاهرة, عفوا: لتصبح علي القلب إن صح التعبير, فلو كانت في القلب ما رأينا هذه المشاهد, ولكنها علي القلب, أو علي هامشه. ويقسم المخرج فيلمه إلي ستة أيام, ولا يتدخل بتعليق صوتي, ولا يفرض وصاية, ولا تشعر حتي في الألفاظ النابية, بطزاجتها وتلقائيتها, بغرابة أو خدش للحياء, فالفيلم نفسه يقول إنه من غير الحياء أن يكونوا هؤلاء موجودين, في مطلع القرن الحادي والعشرين, محرومين من التعليم, أو اضطروا لتركه من أجل لقمة العيش, ليشيخوا قبل الأوان. بعد عرض جلد حي عرض المهرجان الفيلم الروائي كارلوس وهو فرنسي-ألماني من إخراج أوليفييه أساياس الذي يستعرض علي مدي159 دقيقة حياة راميريز سانشيز الشهير بكارلوس, وهو شخص ملتبس اختلف فيه الرأي, ولا يملك الآن الدفاع عن نفسه منذ اصطياده في السودان, واختطافه إلي فرنسا والحكم عليه بالسجن مدي الحياة. بدا الفيلم الروائي مثقلا بالروح التسجيلية عن عمليات الرجل الشبح لصالح القضية الفلسطينية, وكيف يتحالف معه طرف عربي, ثم يبيعه في صفقة من أجل تطبيع العلاقات مع الولاياتالمتحدة, حتي إنه ينتقل في ليلة واحدة بين أكثر من عاصمة, حين أصبح شخصا غير مرغوب فيه, بعد سقوط جدار برلين1989 وانهيار الاتحاد السوفيتي, حيث استفردت أمريكا بالعالم. المفارقة أن فيلما روائيا مادته غزيرة ومغرية, أقل صدقا من آخر تسجيلي, هو الأول مخرجه الذي خرج بأطفاله الأبطال, في اليوم السابع, من ضيق الحي الشعبي والورش الخانقة, إلي مولد تطلق فيه طاقات الخيال للروح, حيث يؤدي أحد الأطفال رقصة, لو شاهده زوربا أو, طوني كوين لغارا من جمالها. كان يرقص مذبوحا من الألم.