لا نصر بلا رؤية لا نصر بلا فكر ثاقب واضح سليم رؤية للعالم وقواه الأساسية وأوزانها الحقيقية وطبيعة منهجها وعلاقاتها وتشابك وتعقيدات مصالحها. رؤية للنفس, تحدد حقيقة الأرض التي تقف عليها والموقع الذي تسكن فيه. رؤية تحدد بوضوح أوجه القصور والتقصير, وكيف يمكن علاجها وبأي طريقة. رؤية حاسمة تحدد ماذا تريد؟.. وكيف يمكن أن تمضي فتحقق ما تريد؟ في عام1967 كانت صدمة الهزيمة بحق مريرة, لكنها جاءت أيضا بمثابة مصدر إفاقة للحاجة الشديدة إلي طريق جديد. تكشف مقالات الطيار محمد حسني مبارك بوضوح تام هذه الحقيقة, وكيف أن مصر نفضت الهزيمة برؤية دقيقة للعالم وقواه وعلاقاته وللذات وحقيقة وضعها ومتطلبات قوتها في آن واحد. إن مبارك الذي يكتب من موقع الطيار في هذه السنوات الواقعة بين الهزيمة والانتصار موجها حديثه لأفراد القوات الجوية آنذاك وليس للرأي العام, إنما يكشف بجلاء حقيقة توحد الدولة المصرية بمؤسساتها وأجهزتها وقياداتها وأفرادها حول هذه الرؤية, وانها تسري بين كل المستويات المختلفة بالإفهام والتبصير والشرح والتفسير. الشاهد طبقا لمقالات الطيار مبارك..[ العالم في مفترق طرق وقفة تأمل مع النفس المنطلق والطريق] أننا إزاء رؤية وطنية للعالم والذات استطاعت باقتدار تحقيق الانتصار. تتلخص هذه الرؤية في الآتي: 1- نقد الذات والوقوف علي أوجه القصور فيها, فلم تكن الهزيمة إلا لقصور ذاتي ولن يكن الانتصار إلا بإصلاح وبناء الذات, وعلي حد قول الطيار مبارك: نتلمس الطريق إلي النصر من خلال نقدنا لذاتنا.. النصر لن يأتينا إلا بعد تغيير كل عناصر القصور فينا. 2- استقلال القرار والاعتماد علي الذات, وترتبط بذلك سلامة الرؤية الاستراتيجية الخاصة بتقييم الحقائق والتطورات العالمية, ففي حينه كانت قوة القطبين الأعظمين أمريكا والاتحاد السوفيتي, وكانت الحرب الباردة بينهما والحروب الإقليمية بينهما بالوكالة وانتظم الوضع في عمومه في حالة من اللاسلم واللاحرب, ومعروف أن إسرائيل ربيبة أمريكا, وأن الاتحاد السوفيتي السابق صادق مصر والعرب, لكن حالة اللاسلم واللاحرب ألحقت بمصر والعرب أضرارا شديدة, وكانت إحدي أسباب هزيمة1967 نظرا لفقدان الرؤية الصحيحة لهذه الحالة, وعدم الأخذ بأسباب القدرة للخروج منها فقد ظلت تحول دون بناء قوة قادرة لمصر والعرب من شأنها الحاق الهزيمة بإسرائيل, في الوقت الذي مكنت فيه إسرائيل من استنزاف وضرب أي بوادر قوة مصرية أو عربية. من هنا جاءت الوقفة مع الصديق السوفيتي بقرار الرئيس الراحل أنور السادات بالاستغناء عن خدمات الخبراء السوفيت عام1972. يقول الطيار مبارك بعبارات دقيقة بالغة الدلالة: إنها وقفة من يريد أن يتخذ منطلقا جديدا علي طريق له معالم جديدة.. وقفة وراءها نظرة ثاقبة أملاها البحث عن: أين كنا؟.. وكيف يمكن أن نكون, وإلي أي وجهة سنكون. بالفعل كانت نظرة ثاقبة تأكد صدقها وألمعيتها, ليس بالانتصار علي إسرائيل في أكتوبر1973 وحده, بل لأنها أيضا استشرفت بذكاء مصري خالص ومنذ وقت مبكر, طبيعة المستقبل العالمي القادم في السنوات التالية, هذه السنوات التي شهدت اختفاء الاتحاد السوفيتي من الوجود, وإنه لم يكن قوة عظمي بالشكل الذي جري تصويره به. فقد تأكدت بصورة ناصعة الحقيقة الاستراتيجية التي توصل إليها المصريون أولا ومفادها أن الاتحاد السوفيتي السابق وإن كان قوة, إلا أنه ليس في مرتبة القوة العظمي, وأنه جري تضخيمه في النزاع العالمي لتثبيت قواعد الحرب الباردة به وليس معه لتحقيق مصالح استفادت منها أمريكا بالدرجة الأولي وبالصورة الأكبر. 3- تحديد واضح للعدو وطبيعته وإمكاناته والهدف من الحرب ضده, فمن يحارب إسرائيل, عليه أن يعرف جيدا أنه يحارب أمريكا, وأن الأخيرة تستهدف احتفاظها بالتفوق علي كل الأمم مجتمعة, وأن تحتفظ لإسرائيل بالتفوق علي كل العرب, كما أننا إزاء خصم يوظف وسائل التقدم والتكنولوجيا من أجل الدمار, وليس إسعاد وتنمية الحياة البشرية, ومن ثم ليست حرب التحرير المصرية من أجل تخليص البلاد من الاحتلال الإسرائيلي البغيض فحسب, بل أيضا من أجل تثبيت هدف إنساني في حياة أفضل للبشرية, وأن نصر مصر لا يقتصر علي الميدان العسكري فحسب, بل يشمل البناء الحضاري وصنع المستقبل الذي يعتمد علي الأخذ بالعلوم الحديثة وتوظيفها في التنمية والعمران والتقدم, وأن مصر هنا تخوض الحرب دفاعا عن الحق, وضد الظلم, دون أن تفقد هدفها ووجهها الإنساني والحضاري, وهذا هو الفارق بين دولة حضارية كمصر, ودول العدوان والاحتلال والتدمير. القارئ لمقال الطيار مبارك: العالم عند مفترق طرق لابد أن تستوقفه هذه الرؤية الحضارية العميقة كيف يسيء تجار الحروب استخدام العلوم والتكنولوجيا في وسائل الدمار بدلا من توظيفها في مجالها الصحيح لصالح إسعاد البشرية. ربما يستوقف القارئ أيضا أن هذا الخطاب الحضاري يتم توجيهه إلي ضباط وأفراد وقوات أمة تستعد للحرب.. لكنها حرب مقاومة ضد الظلم.. ضد الاحتلال.. ضد تجار الحروب وقوي تدمير الحضارة والبشرية, ومن أجل انتصار يضمن تحقيق مستقبل مصر. علي هذه القيم والمبادئ, وبهذه الفلسفة الحضارية تربي قادة وجنود النصر فكان لابد لهم من الانتصار في الميدان العسكري, وفي ميادين البناء والعمران, واستكمال صنع المستقبل.