مكتب واحد تحت سقف واحد في مكان عمل واحد يحوي سبع سيدات, بينهن ثلاث يعانين حالات نفسية مرضية ويخضعن فعليا للعلاج, ودون الخوض في أعراض المرض, أو نوعية العلاج فإن السيدات الثلاث يحملن ثلاث قصص متشابهة لا تحمل سوي عنوان واحد: فتش عن الرجل! لأولي يضربها زوجها كلما دب بينهما خلاف كبيرا كان او صغيرا, ولأن أهلها علموها ان حق الرجل ان يهذب زوجته بالضرب, وان هذا شيء عادي طبيعي, اعتبرت الحكاية عادية, لذا لم تعترض او تغضب منذ بداية زواجهما قبل20 عاما. ولأنها لم تعترض, فقد اعتبر زوجها السكوت علامة من علامات عدم التضرر, ان لم يكن الرضا, ومن ثم, تطور الضرب من لطشة بفردة شبشب إلي شلوت بالحذاء إلي صفعة قوية علي الوجه, ولأنها ست محترمة ومن عائلة طيبة ومتربية ظلت تبتلع الإهانة, تارة بقرص اسبرين وتارة أخري بحفنة من المهدئات, لكن الابتلاع له حدود شأنه شأن الصبر. واليوم هي تجلس في مكتبها تكاد لا تنطق بكلمة! زميلاتها يقدرن صمتها, ويتعاطفن مع مرضها, ويحاولن التخفيف عنها بتوزيع اعباء عملها عليهن, ورغم أنه يجري العرف ان تشكو الواحدة منهن وتتململ وتتضجر لو طلب منها إنجاز ورقة واحدة اضافية, الا انهن يقمن بعملها دون أدني مضايقة! مفهوم طبعا انهن يعملن في الحكومة, لان القطاع الخاص لا يسمح بمثل هذه العشوائية في العمل والتقسيم البلدي للمهام والمسئوليات والملقبة بالانسانية والجدعنة حسب قاموس العمل في الحكومة.عنوسة المدامأما الثانية فتنتابها حالات عصبية مفاجئة, فهي تحتفظ منذ ما يزيد علي خمس سنوات بوجه عابس, وملامح موشكة علي الانفجار لسبب غير معروف, لكن زميلاتها يعرفن السبب جيدا, فزوجها الذي ينتمي إلي طبقة اجتماعية واقتصادية اقل منها بمراحل عدة رسم عليها دور العاشق الولهان قبل نحو15 عاما, كانت وقتها قد مضي علي تخرجها في الجامعة عقد كامل, وحسب قانون الطوارئ النسوي المصري فإن الخطوة الجبرية عقب التخرج هي التستيت وتظل الفتاة ضحية للسؤال القاتل: ها اتجوزت ولا لسه؟ من يوم تخرجها, وهو ما يضخم من صوت عقارب الثواني الذي يظل يطاردها في ساعات نومها ويقظتها منبها اياها ان القطار آخذ في المضي. ولانها كانت الأقل جمالا بين شقيقاتها, ولأن والدتها اصيبت بوساوس قهرية بأن ابنتها ستحمل لقب عانس إن آجلا او عاجلا فقد استسلمت للولهان الذي دق بابها ليمنحها لقب مدام ويبعد عنها اللقب اللي ما يتسمي! وتحت بند العشق والمحبة والثقة, اتفقا علي ان تسلمه راتبها كل أول شهر ليضمه إلي راتبه الهزيل ليدبرا احتياجاتهما, صحيح ان احتياجاتهما تحولت بقدرة قادر إلي احتياجاته لكنها اقنعت نفسها بعدم الاعتراض, وكيف تعترض وهو الرجل الذي اعطاها طوق النجاة من عالم العنوسة المزري؟ لم تشعر يوما انها تزوجت مثل بقية خلق الله, محبة ومودة ورحمة, لكنها كانت مقتنعة تماما انه قدم لها خدمة العمر. وبعد سنوات من التجاهل والتعالي والمعاملة المهينة منه لها, فوجئت انه قد تزوج غيرها, كانت المرة الأولي التي اعترضت فيها, وانبته متهمة اياه بفراغة العين! هنا تلا عليها قاموسا من الإهانات والجروح المعنوية التي تركتها مصابة بهذه الحالة النفسية المرضية حتي يومنا هذا. سخر من اختيارها عبارة فراغة العين وسحبها من شعرها إلي اقرب مرآة ليسألها عم تقصد بفراغة العين؟ قال لها: هو انا كنت شفت حاجة خالص اصلا علشان تقولي فراغة عين؟ بصي علي نفسك كده وقولي لي بذمتك دي خلقة حد يتجوزها؟ انت نسيتي نفسك ولا آيه؟ ورغم انها تنجز عملها علي أكمل وجه, إلا أن زميلاتها حددن لها القيام بالأعمال التي لا تتطلب اي احتكاك بالجمهور, فهي معرضة للإصابة بنوبات عصبية شديدة وفجائية تصيب البعض بالذعر. ثلاث شعرات من الجنون السيدة الثالثة لا يفصل بينها وبين الجنون سوي ثلاث شعرات, تزوجت قبل15 عاما زواجا تقليديا من شاب كان يبحث عمن يكمل معها نص دينه, وبعد أربع سنوات من الزواج كانت قد انجبت ثلاثة اطفال, ومع ضغوط الحياة وصعوباتها, جرب ان يعمل عملا اضافيا بعد عمله الرئيسي, لكن العائد المادي لم يكن يستحق المجهود والوقت وقرر ان يخوض تجربة النزوح إلي الخليج بحثا عن حياة افضل, وكما يفعل الكثيرون, فقد اتفق مع زوجته علي ان تمكث هي مع الأولاد في مصر حتي يتمكن من توفير نصف راتبه ويدخره لتأمين مستقبل الأبناء. ورغم الحمل الثقيل, وافقت, فلم يكن لديها خيار آخر, ومضي العام تلو الآخر, والمبلغ الذي يرسله لها اخذ في التضاؤل حتي أصبح أشبه بالمكافأة الرمزية, قررت ان تقطع الاجازة بدون راتب احدي عجائب العمل الحكومي ال117 والتي تتيح للبعض البقاء علي قوة المؤسسات الحكومية لعقود طويلة دون العمل فيها فعليا وعادت إلي عملها. تعليلات الزوج وتبريراته لم تقنعها فهو تارة يقول إن الشركة التي يعمل فيها اغلقت ابوابها, وان مايرسله من مال يقترضه فعليا من اصدقاء له, وتارة أخري يؤكد ان الشركة قد قلصت الرواتب بسبب الأزمات والبطالة, وتارة ثالثة يقول إن البيت الذي يقيم فيه تعرض لحريق مدمر وانه اضطر لصرف راتبه, ليبحث عن بيت جديد, كانت تعلم تماما انه يكذب, لكنها كانت تقنع نفسها انه ربما مل حياة التقطير والترشيد, وبدأ يبالغ في الانفاق. وبعد أعوام قادتها المصادفة وحدها للحقيقة الصادمة, فقد تزوج زوجها بأخري من اهل البلد, وانجب منها طفلين! اقنعها الأهل والاصدقاء بعدم طلب الطلاق, وان اللي بييجي منه احسن منه وان عليها ان تبتلع ليمونة, وتتحمل ماحدث لانها في أمس الحاجة إلي القروش التي يرسلها. وفجأة عاد الزوج إلي مصر مطالبا اياها بأن يأخذ الأولاد معه ليعيشوا معه ومع زوجته الثانية وابنائه منها, جن جنونها, لكنه لم يهتم, عاد من حيث جاء, لكنه اقسم انه سيعود في العام التالي ليأخذ اولاده معه, ان لم يكن بالقانون فبذراعه. حالة القلق والذعر التي تعيشها خوفا من خطف الأولاد كانت كفيلة باصابتها باكتئاب حاد يدفعها احيانا إلي محاولات انتحار تكللت بالفشل حتي الآن, وخوفا علي مصدر رزقها ورزق اولادها, لم تبلغ زميلاتها الرؤساء بأمر هذه المحاولات خوفا من ان يعرضها ذلك للفصل أو فقدان وظيفتها. هذه الحالات الثلاث يجمع بينها مكتب واحد ضمن مئات المكاتب في مصلحة حكومية واحدة, لقد جن جنون النساء من أفعال الرجال الاشاوس الاشداء, العمل بين ارجاء هذا المكتب يصيب حتما بقية الزميلات بالكثير من الكآبة والهم والغم, لكن لحسن الحظ ان الأمر لا يخلو من طرائف ولطائف, صحيح أنها من نوعية شر البلية لكنها تظل طرائف. الشاي الحرام احدي الموظفات وترتدي خمارا طويلا فضفاضا, وتزين كلماتها بالآيات القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة وعبارات الله يكرمك وجزاك الله كل خير حتي يهيأ للسامع انه لاينقصها سوي جناحين لتتحول إلي ملاك, ولفرط ايمانها وتدينها, فهي ترفض تماما الاستعانة بمياه البراد الكهربائي الذي اشترته الزميلات لتجهيز الشاي والقهوة في المكتب بعد ما اكتشفن ان بوفيه المصلحة مرتع لسلالات متنوعة ونادرة من الصراصير وحجتها في ذلك ان استهلاك البراد لكهرباء المؤسسة يعتبر سرقة, وهذا حرام, لذلك تأتي من بيتها حاملة ترمسا ضخما به الماء الساخن حتي تشرب شايا حلالا. اما تعاملاتها مع الجمهور, فتجعلها في أضيق الحدود, فهي دائما منشغلة إما بالحديث في هاتفها المحمول مع ابنة خالتها, وزوجة ابن عمتها, وحماة خالتها, ولا وقت لديها تهدره في تفاهات الجمهور, اهدار وقت العمل في المكالمات الشخصية حرام؟ لا!!! فهذه نقرة وتلك أخري نقرة اخري طريفة حدثت في رمضان الماضي, فقد جرت العادة ان تصلي الزميلات جماعة في المكتب صلاتي الظهر والعصر, ولذلك فهن يغلقن المكتب من الداخل بالمفتاح لحين انتهائهن من الصلاة, وما يجراش حاجة لما الجمهور ينتظر بره شوية لحين الانتهاء من الفريضة, ولا نكفر يعني؟ وفي ذلك اليوم الرمضاني, حان وقت صلاة الظهر, فتوضأ الجميع, وتم إغلاق المكتب كالعادة بالمفتاح من الداخل, وانهمكت السيدات في الصلاة, ودق الباب غير مرة, لكن احدا لم يلق بالا! اكيد العملاء الرزلاء غير المقدرين للفروض وطبيعة شهر رمضان التي يجب ان يتفرغ فيها المرء للعبادة حتي لو كان في مكان العمل. وتكرر الدق غير مرة, وزادت حدة الدق, ثم الهبد, ومن بعده الرزع, قررت السيدات ان يتمسكن بدينهن, وان يصلين المزيد من الركعات, اذ ربما يلقن اعداء الدين هؤلاء درسا! لكن الهبد والرزع صارا غير محتملين! وتعالت الأصوات في الخارج, وهو ما اضطرهن لفتح الباب! كانت المفاجأة هائلة, اذ لم تكن جموعا من يهبدون ويرزعون علي الباب الا السيد رئيس المصلحة وحاشيته التي اضطرت إلي الافراط في الهبد بعدما ظهرت ملامح الغضب ومعالم العصبية الشديدة علي وجه معاليه اثناء الجولة التفقدية التي قام بها بناء علي تعليمات السيد الوزير للتأكد من سير العمل علي أكمل وجة اثناء شهر رمضان. شتان الفرق خبر قصير مزود بصورة طالعته صباح أحد ايام الأسبوع الماضي, الخبر مفاده ان: السباح الفرنسي فيليب كروازون حقق رقما قياسيا جديدا في عبور بحر المانش, رغم أنه معاق ببتر ساقيه وذراعيه, فقد استطاع فيليب, البالغ من العمر42 عاما عبور بحر المانش في زمن قياسي مدته13 ساعة مبحرا لمسافة33 كيلومترا, بدأ فيليب رحلته الساعة الثامنة صباح السبت الماضي بتوقيت فرنسا من منطقة تسمي فولكسيون ووصل للشواطئ الفرنسية قبل الوقت المحدد بفارق كبير, اذ من المقرر أن تستغرق المسافة من20 إلي24 ساعة. ويشاء القدر ان يكون المشهد الأول الذي اطالعه في ذلك اليوم هو شاب معاق في منتصف العشرينات علي كرسي متحرك ويعاني الامرين في محاولة يائسة لعبور شارع الثورة الخالي من اشارة مرور واحدة, وحتي المطب الصناعي الذي كان يجبر السيارات الطائشة علي تهدئة السرعة تمت إزالته بسبب زيارة مهمة قامت بها شخصية مهمة في رمضان وتطلبت الاجراءات ازالة المطب لسبب غير معروف, وبعد جهد جهيد واستجداء من شابين تبرعا بمساعدته واقتدي الأمر أن تهديء السيارات من سرعتها الجنونية, بدأت معاناة أخري ليتسلق الرصيف, وبعد جهد شاق ومساعدة من المارة, نجح الشاب في صعود الرصيف بكرسيه, وما هي الا بضعة امتار, حتي فوجيء بأن الرصيف مغلق بسيارة دفع رباعي قرر صاحبها ان يوقفها بعرض الرصيف. وجدت نفسي اقارن بين فيليب الفرنسي الذي عبر المانش دون اطراف في وقت قياسي, وهو ما يعني تدريبا رياضيا مستمرا يقوم به في مكان مجهز ومؤهل لذلك وتسهيلات متاحة لخوض التجربة, ودعما معنويا وماديا, وشتان الفرق بين الانسان هناك والانسان هنا!