بعد انهيار التجربة الاشتراكية رسميا في روسيا عام1991, ظهرت علي الفور تيارات دينية متعددة المشارب والملل, بداية من الأرثوذكسية الروسية( الأرثوذكسية السلافية أو برافوسلافنايا كما يقولون بالروسية) والإسلام واليهودية والكونفوشيوسية وهاري كريشنا والبوذية وعشرات التيارات الأخري. بدأت الدولة الوليدة ورثية التركية القيصرية والسوفيتية روسيا الاتحادية مساعيها لسد الفراغ الروحي لذي أكثر من130 قومية تشكل قوام روسيا التي يصل تعداد سكانها إلي140 مليون نسمة. وكما نعرف, فروسيا مكونة من89 إقليما وجمهورية, من بينها جمهوريات وأقاليم مسلمة مثل تترستان والشيشان وأنجوشيا وداغستان وكباردينا بلقاريا وبشكورتستان, إضافة إلي أقليات إسلامية أخري من الشركس والأسيتين وغيرهما. يتراوح تعداد المسلمين في روسيا بين12 و20 مليونا حسب الإحصائيات الرسمية المتناقضة, بينما التنظيمات الدينية الإسلامية في روسيا تؤكد في وسائل إعلامها أن عدد المسلمين من المواطنين الذين يحملون المواطنة الروسية يبلغ25 مليون نسمة. علما بأن المسيحيين الروس الأرثوذكس يشكلون الأغلبية المطلقة, أي يأتون في المرتبة الأولي من حيث العدد, يليهم المسلمون ثم اليهود. وجدت السلط الروسية الجديدة أن إحياء الدين وبعث منظومة القيم الدينية هما أنجع الوسائل لسد الفراغ الروحي الذي اتسعت هوته بإلغاء الثقافة المادية بمعناها العلمي سواء كتوجه لدي السلطة أو نمط حياة وتفكير لدي المجتمع. من هنا بدأ فتح الكنائس القديمة وبناء أخري جديدة كدور للعبادة لا كمتاحف, وانسحب ذلك علي المساجد والمعابد اليهودية والبوذية. ناهيك عن أتباع هاري كريشنا كانوا ومازالوا يجوبون العاصمة وبعض الأقاليم الروسية. وهم يترنمون بشعائرهم وأغنياتهم. لكن رياح الانفصالية هبت علي روسيا منذ عام1992 وكانت تترستان هي البادئة. وتمت تسوية الأمور بمنح هذه الجمهورية صلاحيات أوسع في إطار المركز الفيدرالي. وفي عام1993 هبت رياح أعتي وأكثر دموية. ألا وهي حرب الشيشان الأولي, ثم الثانية التي انتهت رسميا بعد مجيء فلاديمير بوتين إلي الكرملين بعام واحد. طوال كل هذه السنوات كان عدد الكنائس والمساجد والمعابد يتزايد وكانت اعداد التنظيمات والجمعيات والهيئات ووسائل الاعلام الدينية لكل الطوائف تتزايد وتتنوع أيضا وفقا لمصالحها وارتباطاتها وانتماءاتها ثم قبلت روسيا كعضو مراقب في منظمة المؤتمر الاسلامي ولأن المسلمين أقلية في دولة مسيحية أرثوذكسية بدأوا بالضغط في اتجاهات كثيرة لاقت استجابة من السلطات الرسمية بدرجات متفاوتة سواء في هذه القضية أو تلك. أي ببساطة فيما يخدم مصالح السلطة ومصالح السياسة الخارجية الروسية في استعادة علاقاتها مع دول إسلامية كثيرة لم يكن بين روسيا وبينها علاقات في عهد الاتحاد السوفيتي السابق. الكنيسة الروسية التي تري أنها تحمل مسئولية الأغلبية المسيحية تحولت إلي دولة داخل الدولة. والمسلمون الذين يحملون المواطنة الروسية رغم اختلاف قومياتهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم أمعنوا في الشكوي من عدم المساواة في المدارس والجامعات وشغل المناصب العليا, لأنهم مواطنون روس من الدرجة الأولي وليسوا مهاجرين مثل مسلمي أوروبا وأمريكا. الكنيسة تحاول أحكام قبضتها علي المجتمع بعد أن تفاهمت مع السلطة. ومجلس المفتين الروس يحاول من جهته الحصول علي أكبر مكاسب ممكنة وإلي جانبه منظمات وهيئات ومجالس إسلامية أخري تدور حول قادتها ورؤسائها تساؤلات وعلامات استفهام كثيرة سواء من حيث الارتباط بتنظيمات وهيئات خارجية أو من حيث العلاقة مع الأجهزة الأمنية الروسية. وصلت الأمور إلي ذروتها منذ أكثر من عامين, عندما بدأ بعض الأصوات من الكنيسة يطالب بإعادة تدريس مادة الدين في المدارس والجامعات. والمقصود بطبيعة الحال هو الدين المسيحي. انبرت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والأوساط الثقافية والدينية المستنيرة في مكافحة هذه الدعوة من أجل الحفاظ علي التنوع الثقافي والديني والعرقي في المجتمع الروسي. فعلي الرغم من أن ديانة روسيا الرسمية هي المسيحية. إلا أنها اعتمدت مبدأ فصل الدين عن الدولة للحفاظ علي كيانها الفيدرالي. ولكنها في الوقت ذاته لم تحرم أي طائفة أو قومية من ممارسة شعائرها وعاداتها وتقاليدها. أخذت التيارات الدينية والأوساط الثقافية تتقاذف الفكرة إلي أن تبلورت في الشكل التالي: من أجل سد الفراغ الروحي الذي لم يسد طوال17 عاما, ومن أجل نزع فتيل الاحتكاك والعنف ليس فقط بين الأقليات الطائفية والعرقية, بل وفي الأسرة الواحدة أيضا, من الممكن تنفيذ هذه الكفرة بتدريس مايمكن أن يسمي بالثقافة الدينية. والثقافة الدينية هنا لاتتطلب أن يخرج المسلم واليهودي والبوذي أثناء حصة الدين للمسيحيين. أو أن يتم إقصاء المسيحي والبوذي واليهودي أثناء درس الدين للمسلمين. أي أن الدين في المسجد والكنيسة والمعبد, وثقافة التسامح والحب واحترام الآخر في المدرسة والجامعة والشارع. النخب الروسية, بما فيها الدينية المستنيرة, تري أنه إذا بدأ تدريس الدين في المدارس والجامعات بإقصاء أو إبعاد أو إخراج أتباع هذه الديانة أو تلك أثناء تدريس درس الدين لهذا أو ذاك, فإننا في الواقع نمارس أمرا علي عكس مانقصد تماما. الأخطر من كل ذلك أن البعض تلقف الفكرة متصورا أن الحكومة الروسية الإسلامية والمجتمع الروسي المسلم التقيا حول فكرة بعث الدين الاسلامي في روسيا الإسلامية بينما هذا البعض تحديدا لايري ديانات أخري ولاطوائف ولاأعراق, يتحدث فقط عن نفسه علي أساس عبارات مقتطعة من صحف متواضعة لهيئات ومنظمات ومجالس لايعرف عنها أو عن قادتها ورؤسائها أي شيء. بل وأحيانا تصل الأمور إلي الخلط بين أشياء من قبيل العلاقة بين الحكومة الروسية ومسلمي الاتحاد السوفيتي. علما بأن الاتحاد السوفيتي انتهي منذ19 عاما, وخرجت من عباءته6 جمهوريات إسلامية هي كازاخستان وأوزبكستان وطاجيكستان وقيرغيزيا وأذربيجان وتركمانستان, وكلها تعتمد مبدأ فصل الدين عن الدولة. الحديث يجب أن يدور عن روسيا الاتحادية وعلاقة السلطة بالمؤسسات الدينية وعلاقة الاثنتين بالطوائف والأقليات الدينية والعرقية وليس عن علاقة حكومة روسيا بمسلمي الاتحاد السوفيتي غير الموجود أصلا! إذا رأي البعض, بناء علي ماتنشره وسائل الإعلام الصفراء في روسيا, وحاول الترويج لتدريس الدين في المدارس والجامعات الروسية, فهو خاطئ أو ساذج أو متآمر بينما الثقافة الدينية العامة أمر آخر تماما وجزء مشترك لكل الديانات بدون إقصاء أو تفضيل أو استعلاء. وإذا اعتقد البعض أن تجربة تدريس الدين, والأمر ليس كذلك, متفردة يجب الاقتداء بها, فليتذكر أيضا أن التجربة الاشتراكية في روسيا كانت متفردة وكان لها محبوها ومريدوها, ثم...!!