في زيارتي الأولي لعيادة احد مشاهير أطباء القاهرة في جراحة المخ والأعصاب كانت صالة الانتظار الواسعة مزدحمة بالمرضي وذويهم, وكانت الفتاة السمراء ذات العيون الواسعة والقد الممشوق تجلس خلف مكتب صغير تتناثر فوقه استمارات بيانات المرضي وكشوف باسمائهم وعناوينهم. راحت تدون اسمي وعنواني في كشف أمامهما ثم ملأت استمارة أخري بباقي بياناتي الشخصية اللازمة...ولما كان إسمي هو آخر الأسماء فكرت في حجز كشف عاجل, ولما طلبت ذلك من الفتاة أومأت لي برأسها ثم انفرجت أساريرها عن ابتسامة ساحرة وقالت بصوت رخيم: الدكتور لايقبل الكشف العاجل.... كان لزاما علي أن أتحمل مشقة الانتظار....سألتها: كم يتبقي من الوقت ليحين دوري في الكشف....؟ أزاحت بيدها خصلة من شعرها كانت قد تمردت وقالت: ليس أقل من ثلاث ساعات. وقفت في شرفة العيادة الكائنة في أعلي المبني الشاهق الارتفاع فبدت اللمبات المضاءة أعلي واجهات المحلات كعيون القطط الصغيرة, وبدت السيارات الكثيرة المارقة التي تمزق أحشاء الطريق الاسفلتي اللامع بفعل اختلاط الضوء بماء المطر كما لو كانت ومضات برق خاطفة..شردت بفكري بعيدا حيث مدينتنا التي صارت تئن من كثافة سكانها حتي ضاقت أرض مدينتنا بأهلها...لدرجة إني وأسرتي وأختي وأولادها نقيم في شقة واحدة...ظل خيالي يجوب بين طيات الأحداث قديمها وحديثها...انتشلتني فتاة العيادة من شرودي حينما نادت إسمي فانتبهت لأجدني وحدي والفتاة التي سبقتني إلي حجرة الكشف وبيدها استمارة بياناتي الشخصية ووضعتها أمام الطبيب الذي اشتعل رأسه شيبا وراح يرقبني من خلال نظارته المتدلية حتي منتصف أنفه. ولما جلست أمامه كان قد خط بقلمه تحت أسمي وعنواني قائلا: مما تشكو يا أستاذ محمد...؟ حينها تمنيت لو أن الأمر بيدي لأفرغت له كل قصائد شكواي لكنني اكتفيت بالرد في نطاق استفساره الطبي...قلت: آلام شديدة بالرأس تعقبها إغماءات متكررة...كان الطبيب بعد أن أنهي كشفه راح يدون العلاج في روشتة ثم حدد للزيارة موعدا لاحقا. رغم أني لم أدخل هذه العيادة قبل الآن إلا أنني علي يقين من أنني تقابلت مع هذا الطبيب قبل ذلك. بل أكلت وشربت معه...ولكن متي وأين...؟ هذا ما حاولت أن أتذكره... في طريقي إلي العيادة كنت قد قررت النبش في رأس الماضي عسي أن تسعفني ذاكرتي التي ابتلاها الزمن بآفة النسيان. سألته: ألم نتقايل قبل الآن.....؟ ابتسم الطبيب ابتسامة عريضة قائلا: كنت سأسالك نفس سؤالك هذا... منذ هذه اللحظة غمرتنا نشوة الخوض في عباب موج الماضي عسي أن نتذكر شيئا جمع بيننا...وبعد لحظات صمت طالت أفلتت كلمات من بين شفتي...... أتذكر بيت الطلبة...؟ وما ان سمع الطبيب مني ذلك حتي أزاح النظارة عن عينينه وقام ليضمني إلي صدره وكأنما يبث شوقه الي السنوات المنصرمة من خلال اختضانه لي. قلت: إذن أنت سعيد الهداف راح يضحك ويضحك وعلت ضحكته لدرجة أن فتاة العيادة أصابتها عدوي الضحك فضحكت وامتدت العدوي الي فضحكت أنا أيضا.... كان بيت الطلبة يقع علي رأس الشارع الذي اقيم فيه وكان مخصصا لطلبة الثانوية العامة الوافدين إلي المدينة من أقاصي القري البعيدة عن مدينة فاقوس...فاستأجر سعيد حجرة بهذا البيت اختصارا لأوقات السفر من قريته لمدينة فاقوس ولعدم توافر المواصلات إلي قريته السنيطة آنذاك...ولما لمسنا فيه حبه الشديد لكرة القدم قمنا بضمه الي قائمة فريقنا أبناء شارع سلامة الذي يقع علي رأسه بيت الطلبة...شاركنا سعيد في مواجهات كثيرة ضد فرق عديدة وكان هو هداف الفريق الذي تعمل له الفرق الأخري ألف حساب فأطلقنا عليه لقب سعيد الهداف لاستحقاقه هذا اللقب عن جدارة واقتدار...ولما انتهت فترة دراسته الثانوية انقطعت صلتي به ومر علي ذلك أكثر من ثلاثين عاما.... كان قد سألني عن حالتي الصحية خلال الفترة الماضية فأخبرته بأنني في تحسن ملحوظ... أعطاني روشتة جديدة بها أنواع من الكبسولات وطلب مني زيارته بعد أسبوعين. في زيارتي الأخيرة..كان قد قام بالكشف الدقيق علي ثم أخذني من يدي لنهبط معا إلي الشارع قاد سيارته وأنا بجواره ومضي بعيدا حيث الهدوء في مكان ناء علي شاطئ النيل وفي وقت متأخر من الليل. كان قد اشعل سيجارة وأعطاني واحدة قبلتها منه وراح ينظر إلي صفحة الماء فاغرا فاه كأنما يحث الكلمات علي أن تخرج من فمه سلسة وطيعة وقال: كان ترتيبي الأول في الشهادة الثانوية فالتحقت بكلية الطب وفيها تفوقت كيثرا ثم سافرت الي ألمانيا للحصول علي درجة الدكتوراه ولما عدت أحمل هذه الدرجة آثرت أن أقيم بالقاهرة وافتح بها عيادة وكان ذلك منذ عشرين سنة تقريبا...راح يحكي لي قصته ويجوب بحديثه هنا وهناك...يلوح بيده في الهواء تارة ويصمت ثم يواصل حديثه لي تارة أخري...بينما أنا قد انصب كل تفكيري في سعيد الهداف ذلك الولد الشقي الذي كانت حوائط حجرته ببيت الطلبة تزدان بصور شتي لأمهر لاعبي الكرة في العالم. والذي كان يمتلك قدرة فائقة علي مراوغة الفرق الأخري وإحراز أروع الأهداف. محمد الحديدي المحامي الشرقية