تأخرت كثيرا قبل أن أقرأ هذه الرواية, فخسرت كثيرا من المتعة والفرح والبهجة لعدة سنوات, وبالتحديد خمس سنوات! الرواية هي عراقي في باريس للكاتب العراقي صموئيل شمعون وصدرت طبعتها الأولي عام2005, ثم أصدرت دار الشروق ثلاث طبعات متتالية خلال العامين الأخيرين, وهو ما يعني ان الرواية تحقق مبيعات طيبة وتجد اقبالا من القراء علي الرغم من أنها تخلو من الخلطة المعتمدة والمضمونة للتسويق وهي كما هو معروف وثابت السياسة مع الجنس مع الدين. والحقيقة أن القاريء أمام جدارية ضخمة تغطي عدة عقود من طفولة وصبا وشباب وأعتاب كهولة صموئيل شمعون الذي لا يخفي منذ السطور الأولي أنه يكتب نفسه.. يكتب ألمه وشجنه وأفراحه القليلة وهزائمه وهزائم جيله, ومع ذلك فان الكاتب يملك تلك الروح وذلك الألق الذي يحول دون أن يكون عمله مجرد سيرة ذاتية ليس تقليلا منها بل المقصود أن عراقي في باريس عابرة للأنواع, هي كتابة.. نص.. تجربة.. مغامرة.. دهشة.. تجديد للنثر واعادة اكتشاف له.. هي كل ذلك, وفوق ذلك هي متعة خالصة مصفاة نقية, وليست مجرد سيرة ذاتية. من جانب اخر, فان عراقي في باريس, تضم عملين منفصيلين ومتصلين في ان واحد. الأولي عراقي في باريس وتحتل214 صفحة, بينما الثانية البائع المتجول والسينما وتحتل131 صفحة. واختار الكاتب أن يقدم تجربة الشباب وبدايات الكهولة في النص الأول, أما الطفولة فاختار أن يقدمها في النص الثاني. اختارت دار الشروق أن تنشر مجتزأ من مقال هاشم صالح علي الغلاف الخلفي للكتاب, استوقفني منه قولهمنذ زمن طويل لم نقرأ عملا أدبيا بمثل هذا الحجم والمستوي. منذ زمن طويل لم نقرأ عملا يهزنا, يعصف بنا من الداخل, لا يمكن أن تخرج سليما معافا كما دخلت, أقصد بأنك تخرج أفضل بكثير مما كنت سابقا: تخرج أكثر تسامحا وحرية وانفتاحا علي الأخرين.. منذ زمن طويل لم يضحكنا عمل أدبي. لم يدخل البهجة الي قلوبنا مثل هذا العمل.. ويضيف: لقد نظفني هذا الكتاب من نفسي.. حررني من أوجاعي, وساهم في تفجير المكبوت المختنق في داخلي. والحقيقة أن هاشم صالح لم يبالغ قط فهذا العمل الذي يبدو بسيطا سهلا, انما تكمن فرادته تحديدا في هذه السهولة والبساطة, وفي الوقت نفسه تشتعل النار في قلب النصين: نص الشباب, ونص الطفولة. فعلي سبيل المثال يبدأ الكاتب نصه الأول عراقي في باريس في بغداد, فبعد أن أنهي خدمته العسكرية في يناير1979, وانطلق في الباص إلي دمشق قاصدا تحقيق حلمه وهو دراسة السينما في أمريكا, ودمشق ليست سوي المحطة الأولي في طريقه, لكن قبل أن يمر أسبوع استضافته أجهزة الأمن التي قامت بضربه وتعذيبه باعتباره جاسوسا يهوديا عراقيا, لكن أحد الضباط النبهاء اهتدي إلي الصواب, عندما خلعوا ملابسه فاكتشفوا أنه ليس مختونا, وبالتالي فهو ليس يهوديا.. كتب شمعون: وهكذا أطلقوا سراحي بعد أن تأكدوا من كوني لست جاسوسا يهوديا. وقد حدثني الضابط وهو يربت علي كتفي عن مؤامرات الامبريالية الأمريكية والصهيونية وعملائهما في المنطقة بهدف تدمير سوريا... الخ.. الخ.. واقترح علي الضابط أنه من الأفضل أن أغير اسمي. وما أن يغادر إلي بيروت حتي تستضيفه أجهزة الأمن اللبنانية وبالتحديد أمن الكتائب أيضا بتهمة الجاسوسية, وبعد تعذيبه وضربه يتم اطلاق سراحه, فيعود إلي دمشق ومنها إلي الأردن حيث ينال نصيبه من التعذيب والضرب بسبب التهمة نفسها, وبعد الافراج عنه يرحل إلي بيروتالغربية ليلتحق باعلام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.. سيقضي صاحبنا عدة سنوات متنقلا بين بيروت وقبرص والقاهرة وتونس واليمن, وفي تونس يقرر أن يختنه أحد الحلاقين.. وفي نهاية الأمر تصله تأشيرة دخول فرنسا. وعلي الرغم من أن هذا القسم من جدارية صموئيل شمعون لا يحتل أكثر من ثلاثين صفحة الا أنه محتشد ومكتنز الوقائع والأحداث ذات الطابع الكوميدي, فكل جهاز من الأجهزة الأمنية التي ألقت القبض عليه وعذبته قبل أن تطلق سراحه كان دافعها الرئيسي اسمه, فاسم شمعون هو المهم هنا, ولذلك سارعت هذه الأجهزة الساهرة بالقبض عليه بسبب اسمه فقط! والأهم فيما أتصور هو أن الكاتب لم يقدم هذه الاحداث باعتبارها شاهدا علي القمع والانتهاك والتعذيب, بل قدمها كما هي: أجهزة غبية بلهاء تشارك في سرادق ضخم اسمه الأنظمة العربية, أما الراوي( الرواية كلها تدور بضمير الأنا) فهو ليس مناضلا ولا جسورا ولا بطلا, انه واحد علي باب الله, سواء كان في العراق جنديا أنهي خدمته العسكرية بعناية واهتمام, أو في لبنان أو اليمن أو سوريا أو الأردن أو قبرص يتطوح بين أجهزة الأمن, هو مجرد شخص لا يتمني إلا الذهاب لهوليوود لتعلم السينما, مجرد واحد يحب السينما ويعشقها ومولع بها. أما القسم الأكبر من النص الأول فيحتل أقل قليلا من مائتي صفحة, ويعتبره كاتب هذه السطور عملا يفوق الخيال ويخطف الروح, ليس فقط بسبب لغته الصافية التي تجري جريان الماء, والمعنية فقط بتوصيل المعني دون ترهل وحواش تبعث الملل, بل الأهم انها تقدم بطلا من نوع جديد. واحدا من الناس. واحدا من عباد الله يسير في باريس, استضافه أولا مركز بورشتو للاجئين, ثم استضافه أيضا عدد من العرب والأوروبيين الأكثر جنوبا منه. والحال أن شمعون أسقط الرواية من برجها العالي, هزها بقوة, بالخسال الجارح واللغة الصافية, بنيته المسبقة في الخروج عن الرواية التي تكتب في أيامنا, بتخليه عن ارثها, بتقديمه بكل من زماننا, يسعي في مناكب باريس, وقد يغادرها إلي الضواحي أو المدن الصغيرة, أو حتي خارج فرنسا بأكملها في المانيا مثلا. قدم شمعون للقاريء تحفة. قطعة مجوهرات مشغولة برقة واصرار ودأب, هادفا الخروج عن قوانين الرواية ليضيع قوانين أخري للرواية التي يكتبها. أسقط شمعون أيضا الأفكار باقتدار, العلاقة بين الشرق والغرب, علي النحو الذي سبق أن قدمه توفيق الحكيم في عصفور من الشرق أو الطيب صالح في موسم الهجرة إلي الشمال مثلا, لا يهم شمعون, وقدم علاقة أكثر تركيبا وتناقضا. والاكتناز المذهل للأحداث والمشاعر والوقائع علي مدي اقل من مائتي صفحة يخطف الروح بإيقاعه اللاهث, والأهم ان هذا الايقاع اختفي تماما بسبب لغته التي تجري جريان الماء, فبدت الرواية طاحونة من الأحداث والوقائع المجنونة الي هذا الحد أو ذاك. من جانب اخر, لا أعلم لماذا ضم صموئيل شمعون نصه البائع المتجول والسينما لنصه الأول عراقي في باريس صحيح أن هناك وشائج عديدة تربط بينهما, وصحيح ايضا أن كلا منهما مرتبط بالاخر, الا أن كلا منهما يمتلك في الوقت نفسه استقلاله الخاص, بل واللغة الخاصة, فضلا عن شخصية الرواية التي اختلفت بطبيعة الحال في كلا العملين. ولكن ربما يكون للكاتب منطق اخرهو الصواب بعينه. وأخيرا أهدانا صموئيل شمعون نصا بالغ الرهافة, ويمكن قراءته علي مستويات عديدة شأن الأعمال الكبري والباقية في ذاكرة الرواية العربية. هناك مثلا المستوي الاخر من جبل الجليد: التصعلك والتشرد والتسكع والانتماء, وهناك المستوي الخفي من الجبل نفسه: الكوميديا السوداء الكامنة علي سبيل المثال في علاقة الراوي بأجهزة الأمن وتكرار اعتقاله من جانب الأنظمة المتعارضة الا في شيء واحد هو غباؤها المستحكم, وهناك علي مستوي السرد واللغة والابتعاد المتعمد عن التفلسف والانشغال بالقضايا الكبري لصالح خفة الدم المحسوبة والسخرية من كل شيء لأن كل شيء لا يستحق الا السخرية, ومع ذلك هناك خلف ذلك كله نوع من الأسي والشجن البعيد لا يستطيع صموئيل شمعون مهما حاول أن يخفيه.