بعد يومين من التهيئة والاعداد في نزل الشباب الدولي وتحت حرارة لافحة وقف خمسون طفلا ظهر امس يرسمون جدارية صرحية يصل ارتفاعها الي عشرة امتار مقسمة الي خمسة قطاعات عرضية يبلغ عرض كل منها20 مترا, ويمثل كل منها فدان ارض..وبينما وقف الاطفال بصحبة مسئولي الهيئة العامة لقصور الثقافة برئاسةد.أحمد مجاهد يحتفلون بختام اعمال الورشة التي اقامها اتوبيس الفن الجميل التابع للهيئة للاحتفال باعياد الثورة وقف الفنان والناقد التشكيلي محمد كمال الذي قاد الجهد الميداني في هذه رحلة طويلة امتدت علي مدار شهرين سبقا الاحتفالية يتذكر مسار الرحلة التي تجولت بين قري الدلتا والصعيد للتواصل مع الاطفال في القري الفقيرة. قبل شهرين كاملين من يوم امس كان العاملون في ادارة الاتوبيس يجلسون لمناقشة الكاتب الصحفي اسامة عفيفي المشرف العام علي المشروع والفنان والناقد التشكيلي محمد كمال في فكرتهما التي ستخرج بالاتوبيس للمرة الاولي في رحلة عكسية من القاهرة الي القري الفقيرة بعد ان كان عمل الاتوبيس منذ نشأته قبل خمس سنوات يعتمد علي تعريف ابناء المحافظات بالتراث الفني والحضارة المصرية من خلال جولات وورش عمل بالقاهرة والاقصر واسوان. كانت فكرة الكاتب أسامة عفيفي تعتمد علي ان تقام الورشة في القري ذاتها لانقل الاطفال الي خارجها. انطلاقا من فكرة الورشة التي حملت عنوان الارض ارضنا يقول اسامة عفيفي للاهرام المسائي: عندما بدأنا الاعداد للاحتفال باعياد الثورة كعادة الاتوبيس منذ نشأته كانت احداث اتفاقيات تقسيم مياه النيل الجديدة في الافق ليترافق تهديد الارض المصرية بالعطش مع عمليات التبوير المنظمة التي تجري لصالح حفنة من المستثمرين بالاضافة لاستغلال رموز الاقطاع لثغرات في قانون الاصلاح الزراعي لسحب الاراضي من الفلاحين واعادة الخريطة الاجتماعية القائمة علي الملكية الزراعية في الريف المصري الي الوضع الذي كانت عليه قبل حوالي ستين عاما. ويضيف أسامة عفيفي كان لابد من وقفة تعيد تعريف الطفل بأرضه وتدعم ارتباطه بها من خلال الجانب المعرفي في الورشة قبل ان يأتي الجانب الابداعي الذي يعتمد علي تحرير ملكات الطفل الذي يحيا وسط منظومة من القهر المدعوم بالفقر ليشتركا( كل من القهر والفقر) في وضع الاطفال في قوالب تضمن استمرارهم داخل المنظومة وعدم التمرد عليها لهذا كله قررنا ان تكون الورشة في الغيطالذي الفته عينا الطفل حتي اسقطت جمالياته فاعتمدت الورشة علي تغيير نظرة الطفل لوسطه وبيئته كي يزداد تقديره لها. هذه النظرية التي وضعها فريق عمل الاتوبيس قبل شهرين كان علي الفنان التشكيلي محمد كمال بمساعدة المشرفين الفنيين في الاتوبيس ان يطبقوها علي ارض الواقع من خلال ثلاث رحلات الي الدلتا ورحلتين مرهقتين وسط موجة حارة شديدة في الصعيد, هذه الرحلة التي رافقتها الاهرام المسائي قبل ايام كانت المحطة الاولي بقرية منشية لملوم التابعة لمركز مغاغة بمحافظة المنيا الذي يرأسه حسين صبرة الطريق الي منشية لملوم كان تمهيدا واضحا لما نحن مقبلون عليه فرغم الطريق الممهد كانت المصارف المتسخة تنتشر علي جانبي الطريق الضيق الاهمال يبدو واضحا في الطريق الي القرية التي شهدت واقعة دالة في التاريخ المصري ففي عام1953 خرج عدلي صالح الملوم باشا وخلفه اقاربه من ابناء قبيلة الفوايد للرد علي الحاكم المركزي الجديد بعد ان وصل الي علمه اعتزام حكومة الثورة تطبيق قانون الاصلاح الزراعي علي ممتلكاته وممتلكات اسرته التي كانت تبتلع نسبة لايستهان بها من الاراضي الزراعية بمحافظة المنيا, في القرية التي تخلو من المدارس تجمع مايزيد علي130 طفلا في باحة منزل ضخم غير مكتمل البناء عرفت انه يحتل موضع سجن لملوم باشاالذي كان يسجن فيه عدلي باشا لملوم المتمردين من الفلاحين في زمام املاكه الزراعية المترامية الا ان ابنته السيدة خديجة لملوم التي اتاحت المكان لاقامة الورشة قامت بهدم السجن وبناء هذا البيت غير المكتمل في موضعه لتشكل اقامة تلك الورشة علما في هذا الموضع مفارقة جديدة بالتسجيل. بصعوبة تمكن مدير قصر ثقافة مغاغة ومساعدوه من تقليص عدد الاطفال الي تسعين طفلا اجتمعوا جميعا تحت شجرة في الباحة الواسعة ليجلس امامهم محمد كمال وتبدأ الورشة كان كل شئ خارجا عن المألوف لم يكن الناقد التشكيلي يصدر توجيهات او يشرح مفهوم الورشة ليبدأ الاطفال العمل بدأت الورشة كلها بسؤال واستمرت في حوار متصاعد اشتبك فيه الاطفال مع الفنان محمد كمال في حوار طويل حول الارض والحضارة, رحلة معرفية في التاريخ المصري كان الكبار من العاملين بقصور الثقافة ومزارعي الارض الذين اجتمعوا حولنا يستمعون اليها بشغف بينما يكتشف الاطفال الذين فوجئنا بأن كثيرا منهم لم ينل اي قسط من التعليم عن العلاقة بين الحضارة المصرية في فنونها ودينها وقيمها وبين الارض امتد الحوار لما يقل عن الساعة كشف عن قدرة الاطفال علي نفض كثير من المفاهيم الخاطئة التي تم دسها في عقولهم حتي في المدارس فبعد دقائق قليلة من بداية الحوار بدأ الاطفال في تهدئة بعضهم البعض, لم يعودوا بحاجة الي مشرفين يحثونهم علي الانتباه فلأول مرة لم يكن مطلوبا منهم الصمت والاستماع بل الحوار والاشتباك والاختلاف قبل ان يخرج بهم الفنان محمد كمال جميعا الي المزرعة المجاورة ليروا بأعينهم ما دار الحديث عنه في الورشة حول الارض وعلاقتها بالسماء والانسان وفي الداخل مع عودة الاطفال وامساكهم بالفرش والالوان كانت التعليقات تنفجر من الاطفال في ومضات تشي بأنهم وسط كل هذا الفقر والتغييب غير مغيبين طفل يقول ردا علي سؤال لمحمد كمال: الوطن زعلان كل حاجة متدهورة حتي الميه هتروح. وبعد ان تم تقسيم الاطفال الي مجموعات وتوزيع الالوان والفرش التي يتعاملون معها جميعا للمرة الاولي انفكت المجموعات صار الاطفال يعدون من مكان لآخر يسلمون بعضهم البعض الفرش التي كانت اقل من عددهم يتبادلون الالوان, نسوا ماقيل لهم من اجل جمعهم عن وجود رحلة الي القاهرة والبحر اذا ما التزمو في الورشة تقول احداهن ردا علي سؤال الأهرام المسائي لا خلاص لو مرحتش البحرم مش هزعل الرسم كويس يقول احد المشرفين بالورشة: هذه هي المرة الاولي التي نجد فيها كل هذا الاقبال من الاطفال عادة ما يتم جمع40 طفلا علي الاكثر للمشاركة معنا80 فرشاة لاثنين وتسعين طفلا. في سوهاج اختلف الوضع بعض الشئ كانت القرية قريبة من مدينة سوهاج مما دعا العاملين بمديرية ثقافة سوهاج برئاسة محمد موسي توني لضم اطفال قصر ثقافة سوهاج ابناء المدينة للورشة لتظهر الفجوة المعرفية والسنية الواسعة بينهم وبين ابناء قرية جزيرة شندويل حيث اقيمت الورشة في بداية الحوار بين الناقد محمد كمال والاطفال رفض ابناء المدينة رفضا تاما الجلوس علي الارض خوفا علي ملابسهم من الاتساخ فيما جلس ابناء القرية علي الارض باريحية وان انجرف بعضهم لتقليد ابناء المدينة في البداية. اما عن الحوار نفسه فقد ظهر فيه هذا الانفصال الواسع بين اطفال المدينة والقيم الحضارية المتوارثة المتعلقة بالارض التي كان يتفاعل معها بسهولة ابناء جزيرة شندويل الاصغر سنا فيما تسللت مصطلحات عذاب القبر وكفر الفراعنة وفساد ديانتهم لتحتل الحيز الاكبر من حديث ابناء مدينة سوهاج مما دفع الناقد التشكيلي المشرف علي الورشة لتغيير اتجاهات الحوار ليركز علي علاقة الارض بقيمة وفي احد الاركان جلست رندة السيد ابنة جزيرة شندويل ذات العشر سنوات والمنتظمة في الدراسة باحدي مدارس الصم والبكم وانتهت في اقل من نصف ساعة في رسم اجمل لوحات الورشة قبل ان تقول للاهرام المسائي بلغة الاشارة التي ترجمها اخوها حسن المشارك بالورشة ايضا انها هذه هي المرة الاولي التي ترسم فيها. وبالامس فقط وقفت رندة مع خمسين طفلا آخرين قدموا من القري الخمس التي اقيمت فيها ورشة الارض ارضنا في الدلتا والصعيد ترسم جدارية فرعونية الطابع, تثبت ماقاله الفنان محمد كمال للاهرام المسائي في منشية لملوم هؤلاء الاطفال تحمل جيناتهم كل الموروث الحضاري المصري في قيمه وجمالياته, كل مانفعله في هذا المشروع هو التنقيب عن هذا الموروث واستخراجه لايماننا بكونه السبيل الوحيد نحو صناعة مستقبل جدير بهذا الوطن.