من حضرة السلطان الأعظم, والخاقان المكرم, سلطان العرب والعجم الواثق بعناية الملك العدل الصبور السلطان محمد فضل المنصور, الي جميع ملوك جبل مرة. أما بعد: فإن السيد الشريف محمد التونسي ابن الشريف العلامة السيد عمر التونسي, التمس منا اذنا في أن يري الجبل وما فيه, ويختبر ظاهره وخافيه, وقد أذناه بذلك, فلايمنع من محل يريد النظر إليه, وأأمر كل ملك نزل به أن يكرمه ويعظم ملقاه, وقد أصحبته بفلقناويين( حاجبين) من خواص فلاقنتي, ليكونا واسطة بينكم وبينه, وليمكنا من تبليغ الكلام ونيل المرام والسلام. السطور السالفة أرسلها سلطان دارفور مع عمر التونسي لتمكينه من زيارة جبل مرة بدارفور, وهو الجبل الذي لم يكن ميسرا لأحد زيارته بسبب وحشته وصعوبته, ونادرا مانجا غريب اذا تجرأ وزاره! السطور السالفة أيضا وردت في كتاب تشحيذ الاذهان بسيرة بلاد العرب والسودان لمحمد بن عمر التونسي وصدر في سلسلة التراث بمكتبة الأسرة نقلا عن طبعته الاولي الصادرة عام1965 عن الدار المصرية للتأليف والنشر. والواقع أنه واحد من أقدم وأندر الكتب وأكثرها اكتمالا حول دارفور التي كانت آنذاك مكانا وراء الشمس كما يقال, فلم يكن أحد قد زارها من قبل أو كتب عنها, بينما تمكن مؤلف الكتاب محمد عمر التونسي من أن يعيش فيها سبع سنوات متواصلة. وقد ظلت منطقة دارفور( أي شعب الفور) منطقة مغلقة يلفها الغموض حتي عام1793 م حين زارها الرحالة الانجليزي وج. براون وقضي بها ثلاث سنوات, إلا أنه كان مسجونا تقريبا, فلم يسمح له بالتجول في البلاد أو جمع معلومات عنها. أما أول رحالة حقيقي خلف أثرا لايزال باقيا فهو التونسي الذي قام برحلته بعد براون بسبع سنوات. رحلة التونسي تصلح بامتياز لأن تكون عملا دراميا رفيع المستوي يلعب فيه دورا رئيسيا. فالرجل تونسي الأب والجد ومصري الأم والتربية. وكانت مصر كعبة حج اليها الجد سليمان والابن عمر والحفيد محمد بن عمر, وتلقي الجد علومه اللغوية والدينية في الأزهر, وعندما خرج للحج من تونس لم يعد اليها, بل سافر إلي سنار في جنوب السودان فطاب له العيش ونسي أهله في تونس. ولعب القدر لعبته عندما خرج الجد سليمان في قافلة من سنار الي مصر للتجارة, وفي الوقت نفسه توجه ابنه عمر من تونس للحج دون أن يعلم أيا منهما, وبالمصادفة التقيا أثناء الحج واتفقا علي اللقاء بعد انتهاء موسم الحج في مصر, إلا أن عمر عندما عاد الي القاهرة لم يجد أباه, فانصرف الي الدراسة في الأزهر منتظرا عودة أبيه, وعندما أعياه الانتظار, تزوج من فتاة مصرية وأنجب منها ابنه محمد عام1789 م, ولما علم بوفاة أبيه سافر الي سنار ليري اخوته غير الأشقاء, إلا أنه طاب له العيش هناك ولم يعد الي مصر, بل وانتقل من سنار الي دارفور وعاش هناك. ثم لعب القدر لعبته مرة أخري مع محمد ابن عمر, فقد درس بالأزهر, ومالبث أن راح يبحث بدوره عن أبيه, وبالمصادفة التقي بالسيد أحمد البدوي من أكبر تجار دارفور وكان صديقا لأبيه, وطلب منه أن يسافر معه ليلتقي بأبيه, وبالفعل سافر مع صديق أبيه عن طريق درب الأربعين( أقدم الطرق التجارية الي السودان من خلال صحراء مصر الغربية).. وهكذا التقي الأب والابن مرة أخري.. وكان الأب قد أضحي مقربا من سلطان دارفور الذي منحه اقطاعا ووثق فيه.. ثم عن للأب أن يسافر لتونس ليري أهله وأقاربه, فقدم ابنه الي السلطان واستأذن للسفر وطلب أن يترك ابنه ليجمع خراج الاقطاع الذي منحه السلطان. لم يعد الأب من تونس لسبب,ما بينما أقام ابنه في دارفور سبع سنوات ونصف السنة, وعاد الي مصر عام1813 م, والتحق بخدمة الجيش المصري في وظيفة واعظ وسافر مع الفرقة التي اشتركت في حرب المورة عام1827. وعندما عاد اشتغل بتنقيح كتب الطب المترجمة الي العربية في كلية الطب البيطري بأبي زعبل, حيث التقي بطبيب فرنسي كان يعمل أيضا في خدمة الجيش اسمه بيرون. وعندما علم بيرون برحلة التونسي الي دارفور شجعه علي كتابة مذكراته عنها. وحسبما كتب محققا الكتاب خليل محمود عساكر ومصطفي محمد مسعد: نحن نعلم أن التونسي ألف كتابه تلبية لرغبة صديقه الدكتور بيرون, وعلي هذا يمكننا أن نتصور أن التونسي كتب مذكراته عن الرحلة الي دارفور ثم حررها وجعل منها هذا الكتاب الذي نستطيع أن نعتبر نسخته هي النسخة الأصلية. وهنا قام بيرون بأمرين: الاول ترجمة الكتاب الي الفرنسية ونشره عام1845, والثاني نشر الطبعة العربية في باريس عام1850 م. ولا يستطيع قارئ هذا السفر العظيم أن يخفي اعجابه بالجهد الهائل الذي بذله المؤلف دقيق الملاحظة منذ أن وطأت قدماه أرض دارفور ليلتقي بأبيه.. وإذا علمنا ان سلطان البلاد وافق علي ان يتولي هو مسئولية جمع خراج ثلاثة بلاد يشتمل عليها اقطاعه مع انتفاعه بزراعتها, لعلمنا أن أحواله كانت ميسرة كما كان قريبا من جهاز الحكم, لذلك فإن مشاهداته وملاحظاته علي مدي ما يقرب من500 صفحة من القطع الكبير, كانت متنوعة وشاملة تليق برجل قضي سبع سنوات ونصف السنة بين شعب الفور أو دارفور! أما أصل سلطنة الفور, فيرجع طبقا لبعض المزاعم الي بني العباس بعد انقراض دولتهم في بغداد. وقد استعان أحد السلاطين الهمج بأحمد بن سفيان آخر من تبقي من العباسيين الذين فروا من بغداد, استعان به في تدبير منزله وسياسة مملكته, بل وزوجه من ابنته, وأنجب منها ولدا تولي بعد وفاة جده وكان هذا عام1445 م, وهو السلطان سليمان أول سلالة السلاطين العربية.. ودام حكم هؤلاء443 سنة حتي دخلت دارفور في حوزة الحكومة المصرية الخديوية, وهو أمر يخرج عن مجال كتاب مؤلفنا الذي عاد الي مصر عام1813 م أثناء حكم محمد علي. يصف المؤلف بداية رحلته من مصر عبر درب الاربعين طريق القوافل التجارية من الصحراء الغربية الي السودان ثم غربا إلي دارفور. ولعل أهم الفصول بعد ذلك تلك التي يتناول فيها عوائد ملوك الفور ومناسبهم وبيوتهم من الداخل وأدوات الحكم بل وشكل قصر الحكم من الداخل ووضع الجواري والحريم والخصيان وملابسهم والموسيقي التي تعزف في قصورهم وحفلاتهم. ولم يكتف صاحبنا بذلك بل قام أيضا برسم هذه القصور من الداخل, وشكل الآلات الموسيقية والأسلحة المستخدمة وأواني الطعام وأنواعه وكيفية صناعتها. ومن أمتع فصول الكتاب أيضا تلك التي يتناول فيها عادات شعب الفور في الزواج مثلا, وكيفية اختيار الرجال للنساء وحفلات الزواج والرقص والغناء المرتبط بهذه المناسبة.. كتب التونسي مثلا عن حفلات الزواج: وبعد أن يثبت كل صف في مكان الآخر, تخرج النساء راقصات, والرجال راقصين, وكل منهم مقابل الآخر, وكل شابة مقابلة لشاب حتي يتلاقي الصفان في وسط المجال. وكل شابة تكب رأسها في صدر ووجه الشاب المقابل لها, والشاب يهز حربته علي رأسها ويصيح صياح الفرح, وهذا الصياح عندهم يسمي الرقرقة. أوردت هذا المثل فقط حتي يعرف القاريء الي أي حد اهتم المؤلف بالتفاصيل التي تعني بحياة الناس وأغنياتهم وأفراحهم وأحزانهم, بل خصص أيصا فصلين لافتين الأول في أمراض دارفور ومأكولاتهم وطريقة صيدهم وأدوات الصيد( رسم بعض هذه الأدوات), والثاني في معاملاتهم التجارية وعملاتهم النقدية. ولأن الطبعة الأولي للكتاب صدرت عام1965 في ذروة المجد الثقافي والاهتمام والعناية, فإن محققي الكتاب زودوه بملاحق تشكل نصا مهما علي المتن الأصلي,, منها علي سبيل المثال ملحق كتبه الدكتور بيرون السابقة الاشارة اليه عن أحد أهم أمراء دارفور وهو الامير أبو مدين, وآخر فتقول عن الكتاب العمدة حول السودان تاريخ السودان القديم والحديث وجغرافيته لنعوم شقير, وثالث يتضمن معجما عربيا فوراويا. تلك هي دارفور التي تشغل العالم هذه الأيام بسبب الاضطرابات والقحط والتخلف والأطماع الدولية في المنطقة.. هل عرفناها من خلال السطور السابقة؟!