بعد اجتياز مرحلة العناية المركزة والإنتقال إلي غرفة عادية, زارني في لفتة ذات مغزي إنساني وروحي أربعة من الآباء الأساقفة حملوا معهم عبق التراث الأبوي القبطي المصري أظنني لم أختطف بعد لقيود الشيخوخة وتداعياتها, ومازلت متيقنا إنه وإن تأني يستجيب. جرت وقائع هذه الحكاية نحو عام1959 كنت مازلت بعد صبيا, كان لأبي صديق يتجاوز درجة الأخ فقد نزحا إلي القاهرة معا من قريتهما القابعة في حضن الجبل, داخل زمام محافظة اسيوط, يحدوهما أمل أن يجدا لأقدامهما موقعا ولطموحاتهما تحققا, وكان لهما ما أرادا, مرض صديق أبي مرضا للموت, لكن الله قدر له الحياة فعاد الي بيته, وتوافدت جموع المهنئين, رافقت أبي في زيارة التهنئة كانت الكلمة المشتركة بين الكافة' مبروك..' كانت إجابته التي لا تتغير والتي لم تبارحها ابتسامته الهادئة, اشكركم ولكن الحكاية وما فيها إنه لسه فيه زيت, وتأجل النطق بالحكم إلي حين, إدعو لي أن يسندني ربنا في اللي فاضل لي من عمر. تذكرت هذه الحكاية طيلة الأسبوع المنصرم بعد أن إجتزت تجربة مماثلة إقتربت بي من حافة النهاية لكن تم تمديد جلسة النطق بالحكم, وكانت الدروس المستفادة كثيرة وعميقة, لعل أهمها أن تكتشف كم الحب الذي يحيط بك وفيض المشاعر الإنسانية التي تحملك علي اجنحتها لتعبر بك أعتي الأزمات, لتعود بحسب تعبير القديس يوحنا ذهبي الفم' أكثر قوة', وقبلها وبعدها تري رؤية العين مراحم الله التي تستجيب لنداء النفس المنكسرة' أتركها هذه السنة أيضا' لعلها تأتي بثمر( لوقا13). كان ما يحدث حولي وأنا منعزل عن العالم محاطا بأجهزة متعددة وتخترق جسدي غابة من' الخراطيم' تتصل بمنوتور يترجم كل هذا إلي ارقام وخطوط بيانية, وفوق رأسي علي مدار الساعة مجموعة من الأطباء الشباب وهيئة تمريض فتيات وشبانا تضبط علي تحركاتهم ساعتك, وتلمس مدي حرفيتهم, وصبرهم علي الحاحات المرضي خاصة في ليل العناية المركزة الطويل, يكونون فريقا متجانسا يقوده باقتدار وحزم الاستاذ الدكتور شارل بشري, تجد فيهم تجسيدا للروح المصرية الأصيلة يتباري جوزيف ومحمد ومني واعتماد وتحية وملاك وبيشوي وماجدة وهاني وملك مع حفظ الألقاب ومعهم طابور طويل علي اداء عملهم بجدية لا تفارقها الإنسانية, لم اخرج من العناية فقط بالبرء من الأزمة الصحية العاتية لكن أيضا بتجدد الثقة في غد مصرنا رغم قتامة المناخ فمازالت اساساتها البشرية راسخة ومجددة للأمل أن الشمس خلف الغيمة, وكان علي قمة الأداء الطبي علمان تربطهما عبقرية التحليل وقراءة المعطيات فكان وصولهما إلي العلاج الناجع أمرا يسيرا, وفي زمن قياسي; الاستاذ الدكتور عزيز عقيل والاستاذ الدكتور سامح باخوم. بعد اجتياز مرحلة العناية المركزة والإنتقال إلي غرفة عادية, زارني في لفتة ذات مغزي إنساني وروحي أربعة من الآباء الأساقفة حملوا معهم عبق التراث الأبوي القبطي المصري والذي نراهن عليه في حلمنا بغد أكثر إشراقا, ولم يتواني آباء كنيستي مارجرجس بالقللي في متابعتي يوميا بالزيارة ومنحي الأسرار المقدسة فكان حضور الله عبرهم متجددا, ولازلت أذكر كلمات أحدهم: يابني لا تلتفت إلي من يقول بأن ما أنت فيه عقوبة من الله جزاء أطروحاتك التي لا تروق لهم, فالله غير مجرب بالشرور, ثق أنها تجربة لتزكية الإيمان, ولعلك تعيد قراءة سفر أيوب لتقف علي المفارقة بين موقف اصحابه منه ورأي الله فيه, نحن نعيش في عصر النعمة الذي فيه انتقلنا من العبودية إلي البنوة ومن قيود الناموس إلي حرية مجد أولاد الله, هم مازلوا خارج اختبار الحياة في المسيح, ولم يدركوا بعد فلسفة الفداء وعمل المسيح الذي حول لنا العقوبة الموت خلاصا بحسب القداس الإلهي, بمعني أن الموت صار طريقنا إلي الأبدية ولم يعد عدوا نخشاه أو نعتبره شرا أو غضبا من الله بل كان اباؤنا القديسون يطلبونه بفرح وشغف. وعندما سمح لي أن أقرأ الجرائد صادفتني مقالة تحليلية للكاتبة والأديبة سحر الجعار بجريدة الفجر تتعرض فيها لأزمة طلاق الدكتور شريف حتاتة والدكتورة نوال السعداوي, توقفت عند جملة عبرت فيها بإيجاز عن الكثير مما أؤمن به وهي تعرف الشيخوخة بقولها( الشيخوخة ما هي إلا فقدان الأمل في التغيير والتوقف عن التمرد والثورة في وجه الظلم والكذب والقيود), وأظنني لم أختطف بعد لقيود الشيخوخة وتداعياتها, ومازلت متيقنا إنه وإن تأني يستجيب. [email protected]