حينما كنا صغارا نحفظ ما أفاءه الله علينا من القرآن علي يد سيدنا الشيخ محمد بمسجد قريتنا الصغيرة القابعة علي أطراف المدينة..وكانت قريتنا هادئة جميلة ليس بها إلا عدد من البيوت الطينية المتواضعة وكانت نسبة المتعلمين فيها قليلة جدا لدرجة أصبح فيها لسيدنا مكانة مقدسة وكان يحظي باحترام شديد من صغار قريتنا قبل كبارها. وكان سيدنا ذا جسد ضخم وطويل لدرجة لافتة وكان فاقد البصر وصوته أجش يحوي بين طياته رعبا ينزل علي قلوبنا كالسهام...وكان يتسم بطيبة القلب إذ كثيرا ماكنا نجده يبكي بحرقة فيما بين صلاتي المغرب والعشاء وهو نفس التوقيت الذي كان يحفظنا فيه القرآن.... أذكر أن سيدنا كان دائما يرتدي جلبابا قصيرا أزرق اللون وكان دائما يلف عمامته البيضاء الكبيرة حول رأسه الضخم...ولاتفارق يده عصا مأخوذة من شجر الليمون وكان ينتعل بلغة أقرب ماتكون رمادية اللون...وفي الحقيقة أننا لانعرف إذا كانت ذات لون رمادي أم أن أصل لونها كان أسود وأحالها الزمن الي ماهي عليه والغريب في هذه البلغة أن بها رقعا كثيرة علي أطرافها وكانت هذه الرقع ذات ألوان مختلفة خضراء, حمراء, صفراء وكأن من صنعها له تعمد أن يجعلها بهذا الشكل مستغلا فقدان بصر سيدنا أو كأن ثأرا قديما بينهما. قلت له يوما: إن بلغتك سيدنا لم تعد تصلح للسير فيها. إلا أنه غضب غضبا شديدا وكأن الدنيا قامت ولم تقعد. ثم اسند ظهره الي حائط المسجد قائلا: أتعرف يا بن الفرطوس كم تساوي هذه البلغة عندي؟ قلت له متعجبا: لايا سيدنا......!! قال متعجبا هو أيضا من قولي: إن هذه البلغة تساوي عندي مئات الجنيهات. أخذتني الدهشة من هول السعر الذي قدره سيدنا لبلغته اللعينة المتهالكة وكيف أنه يقدر ثمنها بمئات الجنيهات رغم أنها لو كانت ملقاة علي قارعة الطريق مانظر أحد اليها...وكتمت ضحكة كانت علي وشك الخروج خشية أن تمتد يده لي بمكروه لايحمد عقباه...كان أشد مايضايق سيدنا أن يضحك أحدنا علي شيء قاله..أيقنت أن سيدنا يعتز جدا ببلغته لدرجة أنه جعل جانبي كل فردة منها متصلا برباط يلتف حول كعبيه خشية أن تفلت من قدميه أثناء سيره.. ذات ليلة راح سيدنا يختبرنا في شأن حفظنا للقرآن...وبعد أن نادي علي قفزت من بين رفاقي لأقف أمامه ملبيا نداءه. قال: اقرأ يا ولد من أول سورة الجن. وفي الحقيقة لم أكن علي المستوي المطلوب في حفظي للقرآن كما كان يتوقع سيدنا ولم استطع أن أكون عند حسن توقعه وقتئذ...أثار ذلك غصب سيدنا وأنزل عصا الليمون علي رأسي كالصاعقة...رحت أبكي بصوت مسموع جعل رفاقي قد خرسوا في أماكنهم يملؤهم الذعر والفزع من بطش سيدنا وكانوا رغم شقاوتهم في غير أوقات العقاب كادوا يموتون في جلودهم حينما رأوني أمامهم ألقي عقابي الشديد...ولم يكتف سيدنا ببكائي إلا انه أمر جودة العريف بأن يحضر له حبتين من نوي البلح. وهنا زاد بكائي وصراخي ورحت استرحم سيدنا مقبلا يديه الغليظتين ورجوت جودة ألا يفعل وماهي إلا لحظات وضع خلالها سيدنا أذني اليمني بين أصبعي السبابة والإبهام ليده اليسري وبين أصبعيه كان قد وضع حبتي النوي وراح يضغط بهما علي أذني وشعرت وقتها أني وقعت بين فكي أسد... وبينما هو يفعل ذلك كان يكز علي أسنانه التي بدت شديدة الاصفرار. أثار مافعله بي سيدنا حفيظتي. وأشعل في قلبي العداء له ولأقرانه من عديمي الرحمة بأبناء الناس وتمنيت وقتها أن يمنحني الله أسنان أسد جسور وقلب نمر شرس حتي أنقض علي أذنيه الطويلتين وأنزعهما من مكانهما. صار كل ما يعنيني هو كيفية الانتقام منه ومعاقبته بشدة علي مافعله سيدنا الأعمي ابن ال....لقد صارت أذني اليمني حمراء اللون ثم استحالت بعد أيام الي سواد أطرافها. صار رفاقي حينما يغتاظون مني يذكرونني بما فعله بي سيدنا..ومن هول الألم الذي عانيته أخذت في جيبي قطعة من مرآة أمي أنظر بين الحين والآخر الي أذني التي أصابها السوء..مع مرور الأيام نمت بداخلي عقدة أن أجد أبا يمسك ابنه من أذنيه بقصد تأديبه. بحثت في قاموس عدواني الطفولي عن أسرع وأضمن طريقة للنيل من سيدنا فهداني تفكيري الي طريقة واحدة سريعة ومضمونة وأقسمت برأس أبي أن أجعله عبرة لمن يعتبر.... *** في إحدي الليالي وأثناء مجئ سيدنا لتلقيننا أحد دروس القرآن وكان الوقت حينها في غبشة الليل بعد آذان المغرب بلحظات وقبيل باب المسجد...انتظرته حتي أتي ولم يكن حينها بصحبته جودة العريف...اقتربت منه ولم انطق بحرف واحد. وبينما هو رافع وجهه للسماء يدعو الله ان يقبل صلاته وصالح أعماله..سحبته من يده وأوقعته في حفرة كبيرة تليق به كنت قد صنعتها له خصيصا انا ورفاقي الذين تضرروا من بطشه. ظل سيدنا يسير بخطوات سريعة متلاحقة حتي وقع في الفخ. ونظرا لضخامة جسده أحدث وقوعه في الحفرة صوتا هائلا فانفلتت فردتا بلغته من قدميه...أخذت البلغة وطرت بعيدا عن أعين القادمين الي الصلاة...تجمع عدد من المارة الذاهبين الي المسجد حول سيدنا وأخرجوه من الحفرة بصعوبة ورغم ما ألم سيدنا من وجع بجسده الضخم إلا أنه لم يعبأ بأي شيء إلا بسؤاله عن بلغته... حاول الناس إقناعه بأن يؤدي فرض الله أولا وبعد ذلك سيبحثون له عن بلغته الا أن سيدنا قد خلع عمامته وراح يدعو الله العلي العظيم أن ينتقم ممن فعل به هذا الفعل الشنيع وتسبب في ضياع بلغته..كان قد وضع يديه علي كتفي أحد الواقفين وساعده الباقون علي الوقوف...وبعد أن نفض جلبابه القصير مما علق عليه من تراب راح يقسم بكل غال ونفيس عنده بأنه لن يصلي المغرب ولا العشاء جماعة بالمصلين إلا إذا أحضروا له بلغته ولو من تحت الأرض شريطة أن يطمئن هو بنفسه انها بلغته دون سواها. كنت أرقب ذلك من بعيد دون أن يراني أحد...ولما طال الوقت ولم يحضر له أحد بلغته راح يصرخ بصوت عال وأخذ يولول فصار كامرأة راح أولادها وزوجها في حادث اليم لتوهم. في الحقيقة أني شعرت ببعض الارتياح لما حدث لسيدنا الذي راح يحث الناس ويرجوهم أن يحضروا له بلغته, فأضيئت الطرقات والمساحات الشاسعة حول المسجد بالشموع والفوانيس ولمبات الجاز. الكل راح يبحث له عن ضالته المنشودة...كانت صلاة العشاء قد حانت ومازال الناس يروحون ويجيئون بحثا عن بلغة سيدنا...أتاهم صوت سيدنا من بعيد أن الأمر لو استدعي إبلاغ شيخ الخفر والعمدة ونقطة الشرطة فلا يبخلون عليه بذلك...وراح يعد من يأتيه ببلغته فسوف يحفظ أبناءه المصحف الشريف كاملا عن ظهر قلب مجانا...رأيت الناس قد هموا يبحثون هنا وهناك بجدية أكثر مما كانوا عليه قبل وعده لهم. اقتربت من حائط المسجد وكان سيدنا حينها جالسا وأخفيت بلغته اللعينة بين طيان ملابسي إلا أنني حينما تأثرت ببكائه الشديد المتلاحق سألته. لماذا هذه البلغة بالذات ياسيدنا؟ تنهد سيدنا ورفع وجهه للسماء مرتعشا وقال: إنها هدية زوجتي نفيسة اشترتها لي من سوق الثلاثاء منذ خمس سنوات مضت قبل موتها رحمها الله...ثم طأطأ برأسه الي الأرض وقال: هي الوحيدة التي تجعلني أتحمل قسوة خطواتي الي أيامي المظلمة. لم أكن أعرف حينها لماذا تناثرت الدموع الساخنة المتلاحقة من عيني فأخرجت بلغة سيدنا خلسة من بين طيات ملابسي ووضعتها بالقرب منه. وما زال يلعن ويسب من أوقعه في الحفرة وأضاع منه بلغته العزيزة. مرت لحظات فإذا بأحدهم طار فرحا الي سيدنا ووضع البلغة بين يديه...وحانت مني التفاتة الي وجه سيدنا فوجدته مبتسما وهو يعد الرقع التي بها ثم تحولت ابتسامته الي ضحكة عريضة... وراح يحتضن بلغته بحنان قائلا. وجدتها يانفيسة. محمد الحديدي الشرقية