كنت قد كتبت في هذا المكان في21 ديسمبر من العام الماضي مقالا عنوانه حقوق فاورق عبدالقادر وقلت فيه إن الصديق الذي رحل عنا الأسبوع الماضي فاروق عبدالقادر أصيب بجلطة في المخ تركت اثرا وسوف يمتد فترة طويلة من الزمن حسبما قرر الأطباء, وأضفت ان الاستاذ محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب بادر بالتدخل ليتحمل الاتحاد نفقات علاجه في هذه المرحلة, علي الرغم من ان فاروق ليس عضوا في الاتحاد, وهو موقف مسئول من سلماوي يعكس احترامه لمنصبه وفهمه له, عندماتعامل مع فاروق تعامل العارف بقيمته وبالدور الذي لعبه في خدمة الثقافة العربية. وعلي مدي الشهور الستة الماضية تدهورت احوال الناقد الكبير الصحية تدهورا شديدا, ولم يستطع الاتحاد ان يستمر في تحمل نفقات العلاج, وبادر المجلس الأعلي للثقافة بشراءعدد من كتب فاروق عبدالقادر, وخلال ذلك تم ايداع فاروق الذي عاش وحيدا في دار للمسنين بالتجمع الخامس, ثم وقع علي الأرض فأصيب بنزيف في المخ, ونقل إلي مستشفي المقاولون العرب, حيث تعرض لإهمال اصابه بقرح الفراش, ونزيف في المخ, وتوالت الكوارث علي جسده الذي خانه, بعد أن تعطل عقله عن العمل, ونقل إلي مستشفي الدمرداش, وتضاعفت اصابته, وحسبما كتب الزميل سامح سامي في الشروق يوم الخميس الماضي فإن نقله اخيرا إلي مستشفي المعادي للقوات المسلحة جاء استجابة كريمة لمناشدة الكاتب الصحفي إبراهيم حجازي ورعايته مجانا. والحال أن فاروق عبدالقادر دفع ثمن استقلاله ومواقفه واختياراته بالكامل, وتعرض لمسلسل طويل مضجر من الإهمال والفقر والحاجة والبحث واستجداء علاجه, ولأن فاروق كان قد اصيب في مقتل, في عقله, وذاكرته فإن عملية تعذيبه علي مدي ما يقرب من ستة شهور كانت ضارية حقا, وانتهت بحصوله علي جائزة التفوق يوم الاثنين الماضي, ولم ينتظر فاروق طويلا وقام بالرد المتوقع منه, ومات في اليوم التالي علي الفور! أود ان اؤكد انني اتفهم جيدا ان السبب الوحيد الذي دفع البعض لأن يقدموا له طلبا للحصول علي الجائزة هو الحالة الصحية التي تحتاج اموالا للعلاج, والمؤكد ايضا ان فاروق لا علاقة له, بالتقديم للجائزة, فهو ذاهل وفاقد للذاكرة, ولا يملك من امره شيئا, لكن الناقد الكبير اهين بقوة في حقيقة الأمر وتم انتهاك كرامته بل والتمثيل به ميتا. وكان فاروق قد رضي بأن يدفع ثمن استقلاله واختياراته ككاتب وناقد كبير مستقل يعمل بالقطعة, ويعيش من كده ومقالاته ولا يحصل علي مرتب منتظم من اي مكان حتي بلغ السبعين وتجاوزها ايضا, ورفض مطلقا ان يتقدم لاي جائزة, وجاءه التكريم من خارج وطنه, حينما حصل علي جائزتي العويس الاماراتية والكويت للتقدم العلمي منذ سنوات طويلة. وعندما سقط مريضا ووحيدا ايضا, حيث لم يتزوج فاروق واختار ان يعيش وحيدا, التهمت تكاليف علاجه ما أمكن توفيره من ميزانية اتحاد الكتاب وما حصل عليه من كتبه التي قرر المجلس الأعلي للثقافة اعادة طباعتها.. وبدا وكأن الحل لاستكمال علاجه هو حصوله علي مائة ألف جنيه قيمة الجائزة, اي انني اقدر بقوة سبب مبادرة البعض للتقدم الجائزة باسمه, واثق ان حسن النية متوافر, ومع ذلك فإن هذه للجائزة اهانة له حيا وميتا, بل أكاد اقول اغتيالا علي نحوما, بل أن الزميل وائل قنديل كتب في الشروق يوم الخميس الماضي في عموده لم يجد فاروق عبد القادر وسيلة لاعلان رفضه جائزة الدولة للتفوق سوي اعلان موته, بعد ساعات من منحه الجائزة عنوة واكراها واجبارا وهو الناقد المستقل الذي أمضي عمره طائرا حرا طليقا لايغرد إلا خارج أسوار الحظيرة. والحال أن فاروق تم التمثيل به ميتا علي أكمل وجه, ولم يكتفوا بمنحه جائزة يرفضها ورفضها دائما قبل أن يسقط مريضا وفاقدا للذاكرة, بل منحوه جائزة متواضعة مقارنة بحجمه وقامته الشامخة وإنتاجه النقدي والفكري, أي إذا كان ضمير القائمين علي الجوائز قد استيقظ وقرروا منحه الجائزة فالواجب أن ينال الجائزة التي يستحقها, وهي جائزة الدولة التقديرية أو جائزة مبارك, ولا أفهم معني لما يتردد من أن شروط الجائزتين الأخيرتين تحول دون حصوله علي أي منهما, وضرورة أن تقوم احدي الهيئات بترشيحه, والقائمون علي الجائزة يستطيعون بسهولة تدبير الهيئة التي ترشحه أو استثناءه من هذا الشرط, أو اقتراح جائزة خاصة له, أو الاهتمام باستصدار قرار حاسم ونهائي بتحمل الدولة لتكاليف علاجه ورعايته. أشعر بالغضب شأن الكثيرين من حجم الجرم الذي ارتكب في حق الناقد صاحب الضمير اليقظ فاروق عبد القادر, صاحب كتب مثل ازدهار وسقوط المسرح المصري, مساحة للضوء..مساحات للظلال, أوراق من الرماد والجمر, رؤي الواقع وهموم الثورة المحاصرة, من أوراق الرفض والقبول, نفق معتم ومصابيح قليلة,يوسف ادريس..البحث عن اليقين المراوغ. شرفات ونوافذ..وغيرها وغيرها فضلا عن ترجماته سواء كانت نصوصا مسرحية, أو دراسات فكرية.. ومع افتراض حسن نية القائمين علي الجائزة, وأظن ان هذا الافتراض صحيح, فان فاروق عبدالقادر عوقب في حقيقة الأمر علي اختياراته ومواقفه واستقلاله وضميره الحي,عوقب مرتين الاولي بمنحه جائزة لم يتقدم لها, والثانية بمنحه جائزة تقل كثيرا عن قامته وإنجازه إمعانا في إهانته ميتا مع افتراض حسن النية كما أشرت. واذا كنت ممن لايميلون الي جلد الذات والجأر بالصراخ للتنفيس, إلا انني شأني شأن الكثيرين من الكتاب أشعر بالعار وليس الغضب فقط بسبب تعرضي له فاروق عبد القادر, حيا أولا بسبب مسلسل الاهمال والتسول الطويل الذي أسهم بقوة في قتله في نهاية الأمر بعد ستة شهور فقط من مرضه, وثانيا بسبب عرضه للبيع بأبخس الأثمان قبل ساعات قليلة من موته, واعطائه جائزة التفوق الهزيلة بالنسبة لقامته الشامخة. لكن رد فاروق كان أسرع من الجميع, وأهان من أهانوه, ورفض الجائزة بموته..أكاد أوقن ان فاروق استرد وعيه وذاكرته لحظات قليلة بعد اعلان الجائزة, وتوقف قلبه عن الخفقان لأنه شعر بحجم الاهانة التي لحقت به. مع السلامة يافاروق..لقد ثأرت ممن حاولوا اهانتك وإهالة التراب علي انجازك الذي دفعت عمرك ثمنا له وهو أنه يمكن الاستقلال ويمكن الوقوف خارج الحظيرة والتغريد خارج السرب