أعلنت في الأسبوع الماضي جوائز الدولة في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. والواقع أن إعلان هذه الجوائز في شهر يونيو من كل عام يعد عرسا ثقافيا مصريا بارزا, لأنه يعني أن الدولة التي أنشأت نظام الجوائز ومجتمع المثقفين ممثلا في المجلس الأعلي للثقافة الذي يصوت علي جدارة المرشحين لهذه الجوائز, تعلي من شأن الإبداع في مختلف المجالات, وتقدر دوره في تقدم المجتمع. وقد تطور نظام جوائز الدولة مع الزمن. من حق المبدع نفسه أن يتقدم بإنتاجه حتي يخضع للتحكيم. ولذلك نري ازدحام قوائم هذه الجوائز بالأسماء المرشحة. علاقتي لم تنقطع عن المركز القومي, لأنني أصبحت في فترة ما عضوا بمجلس إدارته, وأستاذا غير متفرع لعلم الاجتماع السياسي. وأصبح لدينا أربعة أنواع من الجوائز. أولا جوائز الدولة التشجيعية في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية. وهي مفتوحة بمعني أن أي مبدع يري في نفسه جدارة الحصول عليها يتقدم بإنتاجه, وتفحص هذا الإنتاج لجان متخصصة. وهذه الجوائز بحسب التعريف المقصود منها تشجيع المبدعين وهم في بداية مشوارهم الإبداعي, لتحفيزهم علي مواصلة الإبداع. والأصل أن يتقدم لها شباب المبدعين.ولدينا بعد ذلك جوائز التفوق التي أضيفت حديثا وهي جوائز للمبدعين في منتصف مسار إبداعهم. وهذه الجوائز من حق الهيئات المختلفة التي نص عليها القانون أن يرشح لها من تري أنهم جديرون بها, ومن حق المبدع نفسه أن يتقدم بإنتاجه حتي يخضع للتحكيم. ولذلك نري ازدحام قوائم هذه الجوائز بالأسماء المرشحة. هذا العام كان عددهم ثلاثة وثمانين مرشحا مما يجعل عملية الاختيار أحيانا بالغة الصعوبة. ولدينا بعد ذلك جوائز الدولة التقديرية والتي هي أرفع هذه الجوائز شأنا لأنها تمنح علي مجمل انتاج المبدع, وتعد اعترافا رسميا بالإضافة التي حققها في مجال الفن أو الأدب أو العلوم الاجتماعية. جائزة الدولة التقديرية نالت من قبل شرف الحصول عليها من قبل القامات الكبري من المبدعين المصريين, من بينهم طه حسين والعقاد, مما يدل علي الأهمية الرمزية الكبري لها, باعتبارها اعترافا من مجتمع المثقفين ممثلا بالمجلس الأعلي للثقافة الذي يضم نخبة من كبارهم, بالقيمة الاستثنائية لمن يحصل عليها. ونصل أخيرا إلي جائزة مبارك في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية, وقد استحدثت منذ سنوات لتشير إلي الأهمية الكبري التي توليها الدولة للإبداع, وأضحت هذه الجائزة منذ إنشائها أرفع جوائز الدولة علي الإطلاق, ليس بحكم قيمتها المادية فقط, بل من حيث قيمتها الرمزية. وباعتباري عضوا بالمجلس الأعلي للثقافة منذ سنوات, فإنني علي معرفة كافية بإجراءات التصويت السري التي تتم علي كل اسم في قوائم الفنانين والأدباء والباحثين في العلوم الاجتماعية. تتم دورات التصويت والتي تصل إلي أربع دورات بدقة بالغة. وتحكم عملية الاختيارات عوامل متعددة أهمها بروز الاسم في المجال العام, ووضوح تميزه في ميدانه, وكذلك شهرته وخصوصا إذا كان يمارس الكتابة في الصحف بالإضافة إلي قيمته الإبداعية. والحصول علي جوائز الدولة مسألة صعبة, لتعدد أسماء المبدعين في كل فرع. وسأحكي بإيجاز خبرتي الخاصة في الموضوع باعتباري حصلت علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام1996 وعلي جائزة مبارك عام2001. رشحني مجلس إدارة المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وهو إحدي الهيئات التي من حقها الترشيح عام1995 للجائزة ويرد ذلك إلي أنني عملت في المركز باحثا وخبيرا منذ عام1957 حتي عام1975, حين استقلت وعينت مديرا لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. غير أن علاقتي لم تنقطع عن المركز القومي, لأنني أصبحت في فترة ما عضوا بمجلس إدارته, وأستاذا غير متفرع لعلم الاجتماع السياسي. رشح اسمي للتقديرية عام1995 غير أنني لم أحصل عليها لأن القائمة كانت تضم في الواقع نخبة من كبار الأساتذة في العلوم الاجتماعية, والذين يفوق اسهامهم في ميادينهم إسهامي في علم الاجتماع, ولذلك نالها في هذا العام من يستحقون بالفعل. غير أن المركز القومي أعاد ترشيحي مرة ثانية عام1996 ورغم شدة المنافسة حصلت علي جائزة الدولة التقديرية, واعتبرت ذلك ذروة التوفيق في مشواري العلمي الطويل, لأنها اعتراف من مجتمع العلماء الاجتماعيين والمثقفين بقيمة إنتاجي العلمي, الذي استمر بدون توقف لمدة أربعين عاما بعد سنوات رشحني المركز لجائزة مبارك في العلوم الاجتماعية, ولكنني لم أوفق في الحصول عليها لأن المنافسة كانت شديدة, والأسماء المرشحة كانت فعلا تمثل ذروة الإبداع العلمي من جيل أساتذتنا الأجلاء الذين تعلمنا علي أيديهم, ونعمنا بثمرات عقولهم, وفتحوا لنا آفاق المعرفة الواسعة. كانت قائمة جيل أساتذتنا طويلة, وكل واحد منهم يستحق الجائزة والمشكلة أنها جائزة واحدة كل عام, ولذلك لم يحصل عليها عديدون منهم, مع أن كل واحد فيهم جدير بحكم إنتاجه العلمي المتميز بالحصول عليها. صرفت النظر عن الحصول علي جائزة مبارك. وفوجئت عام2006 بأن الأتليبة( اتحاد الكتاب والفنانين) وأنا عضو به رشحني لجائزة مبارك في العلوم الاجتماعية. وحين طالعت قائمة الأسماء المرشحة اكتشفت أن بها اسماء عدد من كبار الأساتذة في مختلف فروع العلوم الاجتماعية, وبعضهم كانوا من بين أساتذتي المباشرين الذين تلقيت عليهم العلم مباشرة في مناسبات متعددة, وأهمها علي الإطلاق في الدورات التدريبية بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية. ولذلك علقت ضاحكا مع أصدقائي أنه من المستحيل أن أحصل علي الكأس هذا العام ويكفيني التمثيل المشرف! استخدمت لغة كرة القدم, إدراكا مني أن أحد أساتذتي هو الجدير بالجائزة ويكفيني شرفا أن يوضع اسمي بين أسمائهم! وتجيء المفاجأة أن أحصل أنا علي الجائزة! وحين فكرت في الموضوع أدركت أن أعضاء المجلس الأعلي للثقافة الذي صوتوا, قد يكونون أحسوا بأن إنتاجي العلمي في مجال علم الاجتماع والثقافة كان له طابع خاص, لأنه يمثل القدرة علي استيعاب نتائج علوم اجتماعية متعددة وفق منهج علمي يتسم بالشمول والتكامل معا. حكيت هذه الخبرة الشخصية لكي أبين للقاريء أن الحصول علي جوائز الدولة بأنواعها المختلفة عملية صعبة لكثرة الأعداد وشدة المنافسة, وتنوع العوامل التي تؤدي إلي حصول المبدع عليها. سعدنا هذا العام بحصول عدد من كبار المبدعين كل في مجاله بالجوائز. في جائزة مبارك في الفنون حصل عليها فنان الكاريكاتير الشهير مصطفي حسين وفي الآداب الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي الذي أثري الوجدان المصري بقصائده الرائعة. وجاءت الجائزة اعترافا جهيرا بشعر العامية المصرية, وتأكيدا علي قدرته علي التعبير الملهم. وحصل عليها في العلوم الاجتماعية الدكتور مصطفي الفقي وهو متعدد المواهب. فهو دبلوماسي بارع وسياسي وأهم من ذلك أنه باحث متميز في العلوم الاجتماعية, وله كتب بالغة الأهمية تتضمن اسهامات رفيعة المستوي. في الجائزة التقديرية للآداب فاز الصديق الناقد الأدبي الشهير فاروق عبد القادر تقديرا لمشواره النقدي الدءوب, والذي رحل للأسف الشديد قبل أن يسعد بالجائزة. وفاز كذلك المهندس الدكتور محسن زهران, المعماري الذي أشرف علي بناء مكتبة الإسكندرية. في جوائز التفوق فاز الدكتور شبل بدران عميد كلية التربية بجامعة الإسكندرية, وهو من أبرز علماء التربية في مصر, وله مؤلفات إبداعية متعددة من أبرزها كتابه الأيديولوجية والتعليم في مصر والذي طبق فيه بصورة مبدعة نظرية علم اجتماع المعرفة. وفاز كذلك الدكتور نصار عبد الله أستاذ الفلسفة بكلية الآداب بسوهاج وهو نموذج فذ للأكاديمي الموسوعي, فقد تخصص أولا في العلوم السياسية, ثم درس من بعد الفلسفة وحصل علي درجة الدكتوراه في موضوع بالغ الأهمية, وهو نظرية العدل عند الفيلسوف جون رولز الذي حقق أعظم إنجاز في مجال الفلسفة الليبرالية, حين أكد أن هناك مبدأين للعدل, الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. كانت رسالة نصار عبد الله أول دراسة باللغة العربية عن هذا الفيلسوف العظيم. ونصار عبد الله أيضا من أبرز الشعراء المعاصرين, وله انتاج شعري متميز. أردت من هذه الجدولة مع جوائز الدولة أن اؤكد أن دور الدولة في دعم الثقافة والإبداع, يعد من أهم أدوارها علي الإطلاق, لأن الإبداع هو بكل بساطة مفتاح التقدم!