للأمانة بدا علي رجب طيب أردوغان رئيس الحكومة التركية التأثر والشجن وهو بين جنوده في قمة وعرة بجبال جنوب شرق تركيا, حيث المواجهات المسلحة مع العناصر الانفصالية لم يكن رئيس الحكومة وهو يتفقد ميدان المعارك يؤدي دورا وظيفيا بحكم منصبه, وإنما كمواطن اعتصره الألم وهو يشاهد لوعة الأسر في عموم الأناضول لفقدان خيرة شبابها في صراعهم من أجل وحدة التراب التركي. أردوغان, الخارج توا من معركة صال وجال فيها, وأصبح بطلا مغوارا ترفع صوره في أرجاء متفرقة من المحيط للخليج عقب الهجوم الإسرائيلي علي قافلة الحرية, كان يود استمرار نشوة الظفر علي العدو الصهيوني لأطول فترة ممكنة لعلها تعيد صورته وصورة حزبه إلي سابق عهدها, لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن, فسرعان ما عاد الإرهاب الانفصالي إلي وتيرته, بل زاد من وحشيته, خصوصا في الأيام الثلاثة الأخيرة, حاصدا أرواح ستة عشر جنديا وفتاة لم تتجاوز السبعة عشر عاما من عمرها, زاد من موقفه الصعب أنه أعلن الأسبوع الماضي وبثقة يحسد عليها أن الخيار العسكري لم يعد مجديا لوأد الإرهاب والإرهابيين, ومن ثم لا حل للمعضلة الكردية من خلال المواجهات المسلحة, ولم تمر سوي ساعات قليلة إلا ويشن الانفصاليون عدد من الهجمات علي وحدات عسكرية علي الحدود الفاصلة بين الأراضي التركية وشمال العراق, ليسقط في يده ويصبح مثار تعليقات لاذعة من قبل خصومه طالت العام والخاص من حياة الرجل, بيد أن تلميحات هنا وهناك ذهبت إلي أن رئيس الحكومة يريد الإسراع في انفتاحه علي القضية الكردية إرضاء لزوجه السيدة أمينة هانم, التي تنتمي لأصول كردية من سيرت الواقعة جنوب شرق البلاد. وها هو حديثه أمس الأول أمام الكتلة البرلمانية لحزبه, وفيه راح أردوغان يناضل بالكلمات تارة, والإيماءات تارات أخري كي يؤكد لمعارضيه, وهم ما ذهبوا إليه من انتقادات, لكن أردوغان لم ينتبه إلي حقيقة مهمة, وهي أن ما نسب من أقوال انتقادية, لم يكن مرده رموز القوي السياسية فحسب, بل الشعب نفسه, فقطاعات عريضة منه, ومعها منظمات المجتمع المدني, ضاقت ذرعا بالسياسات الحكومية التي لم تفلح في درء الخطر, بل زادت منه, وهو ما كان يعني أن يركز رئيس الحكومة في خطابه علي طرق مواجهة الإرهاب وليس النيل من معارضيه, خصوصا كمال كليتش دار أوغلو زعيم الشعب الجمهوري, نجم الحياة السياسية الجديد, ويبدو أن الأخير بات مصدر قلق جدي لأردوغان, بيد أن كليتش صار يستحوذ علي اهتمامات رجل الشارع العادي ساحبا البساط تدريجيا من تحت أقدام حزب العدالة الحاكم ورئيسه معا. التوتر هذا والعجز عن مواجهة بركان الغضب انسحب بدوره علي أداء الأجهزة الحكومية الذي اتسم بالانفعال وأصبح عدم التروي عنوان مفرداتها التي توجهها للجماهير المنتظرة أفعالا وليس أقوالا, ويستحسن, كما عبر مواطن, أن يكفوا عن الكلام جملة استنكارية شديدة الدلالة أطلقها عابر بعد أن سمع أمس تصريحا لوزير الداخلية ايسنمان طالاهاي, وفيه قال: إن الحوادث الإجرامية الأخيرة تعكس ذعر الإرهابيين وانكماشهم, ياله من أمر يدعو للسخرية, فإذا كان الإرهابيون وهم مذعورون يقتلون كل هذا العدد من الجنود والضباط, فماذا لو كانوا غير مذعورين, إذن سيقتلون الشعب بالكامل, أي عبث وأي استخفاف ردده هذا المسئول عن أمن العباد والبلاد, يبدو أنه كان يمزح!! غير أن أخطر ما وجه للقائمين علي السلطة التنفيذية انطلق من حزب الحركة القومية اليميني المتشدد, فمسلسل الاعتقالات الذي طال عسكريين متقاعدين, ومنهم لايزالبالخدمة, مس كرامة المؤسسة العسكرية, وشجع عناصر منظمة حزب العمال الكردستاني الانفصالية علي التمادي في أفعالهم الرامية إلي تفتيت تركيا إلي دويلات صغيرة. ويبدو أن ما أعلنه دولت بهتشلي زعيم ذلك الحزب اكتسب مصداقية, فبعدها بأربع وعشرين ساعة تصدر إحدي محاكم مدينة اسطنبول قرارات إفراج عن جملة عسكريين, علي رأسهم الجنرال المتقاعد قائد الجيش الأول السابق تشيتين دوغان, الذي وصف بأنه العقل المدبر لتخطيط وتنظيم الانقلاب ضد الحكومة فيما سمي مؤامرة أرجينكون. وحتي تكتمل صدمة العدالة والتنمية الذي كان يعول الكثير علي ثبوت التهم علي المقبوض عليهم, شمل الإفراج أيضا جيهان ار, وإلي مدينة أرزورم الذي استقبل صباح أمس استقبال الفاتحين عندما عاد إلي مقر عمله, وكان ذنبه الذي عوقب عليه بالسجن أربعة أشهر رهن الاعتقال كونه أنه قاوم بشدة محاولات تسييس الدين. لا غلو إذن في القول إن الحاصل قد يلقي بظلاله علي مستقبل الحزب الحاكم المهيمن علي الحياة في الأناضول لعام الثامن علي التوالي وزعيمه, فالانفتاح علي القضية الكردية, وطبقا للشواهد المرئية الآن ربما بداية التراجع, وثمة أمر آخر ربما يدفع البلاد إلي انتخابات مبكرة ويتمثل في القرار المنتظر من المحكمة الدستورية العليا المفترض أن يصدر خلال عشرة أيام, فهل ستعطي تلك المحكمة موافقتها للتعديلات التي أجراها العدالة علي الدستور, أم سترفضها؟ وهذا هو الأقرب كونها تعرض أسس الدولة للخطر.