أنا وغيري كثيرون في مصر، توقفنا منذ فترة عن تعاطي الهم العام، والهم السياسي تحديدا، بعد أن تمكن منا الاكتئاب الناتج عن شعور مبهم بتزايد دوائر الحظر حتى أصبحت دوامات، خرجت من اطار الثورة إلي الفوضى، وتخلت كل النخب عن وقارها ومهنيتها من أجل اغتنام مكاسب فئوية، علي حساب صالح الوطن ومواطنيه. انطلاقا من هذا المشهد المحفوف بالمخاطر والقلق علي مستقبل هذا الوطن، وفي ظل موجة مكارثية جديدة اطلقتها النخب، وطبل وزمر لها جوقة الاعلام المدفوع فسودوا آلاف الصفحات وعلقت الفضائيات مشانقها لكل من دعا إلي العقل، أو البحث عن توافق الحد الأدنى من أجل عبور المرحلة، بجراح أقل، أو بخسائر أقل أو "بموت أقل" علي حد تعبير الرائع محمود درويش. طالعنا اعلامنا المبروك بخبر عن الاتجاه إلي اصدار قانون حماية تصرفات المسئولين أو ما يسمي بقانون حسن النية، ليحصن قرارات المسئولين ضد المساءلة القانونية مما يثير العديد من علامات الاستفهام بل والارتياب، وماذا يعني تحصين إنسان ضد المساءلة القانونية في ظل ثورة كانت "سيادة القانون" مطلبها الأساسي، بل وحجر الزاوية لإقامة دولة حديثة سواء "مدنية أو دينية" ولكن صاحب هذا الاقتراح المخزي رأي أن يمنح المسئولين حصانة، في صدام حاد مع الوعي العام يكشف عن "الدماغ الخفية وبلغة شبابية تكشف "السوفت وير" الذي يدير البلاد، وما هي توجهاته الحقيقية وعن أي مصالح يعبر؟ وحالة الفصام التي يعاني منها فلا يدرك معطيات الواقع الجديد بعد حركتين احتجاجيتين ابهرتا العالم. والتساؤل الأخطر الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي رؤية صاحب هذا الاقتراح لمفهوم الدولة، وهل هو من طبقة النبلاء ونحن الشعب "الرعية" وهل لا يزال هناك في العالم من يري أن مصر لم تغادر العصور الوسطي، ونحن الذين ننبه علي العالم بحضارتنا القديمة. أم أنه يعلم جيدا أن سوء رجالاته في المستويات المختلفة، والذي عانينا منها طوال حكم مبارك بسبب اختيارهم من دائرة الأجهل والأفسد ولاعبي الثلاث ورقات لتعظيم مدخلات السادة القائمين علي النظام، ولضمان استمراريته. ثم كيف نتحدث عن حسن النية والعالم بأسره يتجه إلي النماذج الرياضية والإحصاء ومعاملاتها كأدوات أساسية في اتخاذ القرار، حتى تحولت علوم الادارة والسياسة بدورها إلي نماذج تعتمد لغة الأرقام، كلغة وحيدة للعلوم؟. ومن ثم اتقدم باقتراح شعبي قد يكون أكثر وجاهة، أن يكون ضمن مسوغات تعيين السادة المسئولين "شهادة معاملة أطفال" ترفع عنهم سيف القضاء، والآخرة علمها عند ربي، ولن نلومهم نحن أبناء الشعب لأنهم قانونا يعاملون معاملة الأطفال، وبذلك تستقيم المدخلات مع "الدماغ الخفية" تتحقق أهداف المرحلة من وجهة نظر القائمين عليها، أما نحن فلن نستشيط غضبا ولن نموت كمدا وغيظا فنحن نلعب مع أطفال. أما السادة المسئولون أصحاب الرغبة في التحصين فعليهم الحصول علي الشهادات وهم مؤهلون لذلك نفسيا، لأن الدوائر والمستنقعات التي تقذفهم ارضعتهم وكبرتهم وسمنت جلودهم، فلا حياء جبلوا عليه، ولا خجل من الفشل يرهبهم ولا علم تلقوه يمكنهم من رؤية أخري لمشاكل البلاد وحلها. رابط دائم :