علي بعد نهر وضفتين من ميدان التحرير, وساعات من الصخب والزهو وترديد هتاف: ارفع راسك فوق انت مصري, وقف رجل أمام دار الأوبرا وحيدا, غير عابئ بأغان وزغاريد ونفير سيارات. ونقاشات حول رحيل مبارك. كان يرتدي جاكيت نصف كم محليا, ربما صنع في المحلة الكبري, من ذلك النوع الذي كان يرتديه عبد الناصر. صعد فوق سيارته القديمة, ولوح بالعلم بيد, وبالأخري حمل لافتة كتبها علي عجل: تذكر يا مصري هذا التاريخ:2/11/.2011 كنا علي مقربة من فجر12 فبراير, وفي الميدان هتافات وطنية, تزاحمها أخري طائفية غير بريئة, هتافات توفر غطاء دينيا لسرقة ثورة وميدان تغزوه عباءات سود لسيدات, ولحي طويلة وجلابيب قصيرة. كانت الهتافات طوال18 يوما تجعل من الوطن عقيدة, ومن المستحيل أن تعرف دين صاحب الشعار, لكن تلك الليلة بدت كلحظة خطف الغنائم, واقتسام ميدان التحرير, وتوزيع فضائه وهوائه, ومكبر الصوت بيد مهووس ينادي: تكبير. فيرد المئات سعداء بالنصر: الله أكبر. سجلت آنذاك أنني أري الهرم ينقلب أو يكاد, يقف علي قمته المدببة, وتميل قاعدته مع الريح, وفي سقوطه سوف يسحق كثيرين, ثم يتسلقه الذين انتظروا هذه اللحظة, ويرفعون فوق قمته الجديدة رايتهم. انقلب الهرم فأمسيت أردد: ذهبت الفكرة, وجاءت السكرة, بدلا من القول القديم: ذهبت السكرة, وجاءت الفكرة. جاءت لحظة الاختبار, فسقطت الأقنعة عن وجوه قوم يدعون التواضع, وقد أمروا به, فإذا هم يمارسون الاستعلاء مرتين.. علي غير المسلمين بإسلام ورثوه, وعلي المسلمين بانتماء لجماعة أو تنظيم يدعي امتلاك الحقيقة, وكنا علي درجة كبيرة من البراءة والسذاجة, إذ صمتنا علي هتافهم باسمنا: الشعب يريد إخلاء الميدان, وتلك كانت خطيئة, ولو صمدنا في الميدان أسبوعا آخر, لحققنا الهدف الأول للثورة, تشكيل مجلس رئاسي مدني, وتكوين جمعية تأسيسية لكتابة دستور الدولة, لكن لو لا يصح الآن طرحها, فما حدث قد حدث, وأضاع الشعب عامين من التطاحن بالدماء, في صراع بين طرف ينظر للمستقبل ويرغب في دولة تتسع لمواطنيها أيا كانت دياناتهم أو مذاهبهم, وآخرين يرغبون عن هذا المستقبل, ويعانون أمراض الحنين إلي أوهام الماضي. في عصر مبارك, كنا نختلف حول المادة الثانية من الدستور, ونصها: الإسلام دين الدولة, واللغة العربية لغتها الرسمية, ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع, كنا نعلم أن السادات أضافها إلي الدستور رشوة للشعب, لكي يتغاضي عن منحه حق الترشح مدي الحياة, ونسخر من حشر اللغة العربية بين دين الدولة وشريعتها, وننتظر اللحظة المواتية لإلغاء هذه المادة العنصرية, ونسخر أيضا من تناقض هذه المادة مع مادة أخري, في الدستور نفسه, تحظر قيام الأحزاب علي أساس ديني; فإذا كان الإسلام دين الدولة فلماذا نمنع الأحزاب الدينية؟ لكن هذا ماض قريب بعيد, كنا فيه نحلم, ولكن الحلم المجاني لا يفيد, نستدعي دستور1923 ويتكون من170 مادة, ونص المادة149 يقول: الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية. سياق كتابة هذا النص في دستور جاء بعد ثورة1919 التي رفعت شعار: الدين لله والوطن للجميع هو أن بريطانيا, دولة الاحتلال آنذاك, لمحت بعدا اجتماعيا في أحداث الثورة, وتأثيرا للنشاط اليساري داخل الطبقة العاملة المصرية, بعد عامين علي ثورة أكتوبر الشيوعية في روسيا(1917), وكما يقول الدكتور عاصم الدسوقي سربت السلطات البريطانية خطابا في أغسطس1919 إلي مفتي الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي بتوقيع مسلم هندي يسأله عن حكم الدين في طريقة البلشفية؟ فأجاب الشيخ: إن البلشفية ضد الشرائع السماوية, وخصوصا الإسلام. رد يساريون مصريون علي الشيخ ببيان باسم اللجنة المستعجلة عنوانه: خدعوك يا بخيت, وهنا نشأ ثأر بين الشيخ والاشتراكيين, وكان الشيخ في لجنة كتابة الدستور, ولم ينس ذلك الثأر, وكان الحزب الشيوعي المصري قد أعلن رسميا عام1921, فاقترح المفتي تلك المادة, وأحرج بها أعضاء اللجنة, ولا أستبعد أيضا أن يكون الاحتلال البريطاني وراء الإيعاز بها, لإيقاع الفرقة بين المسلمين والمسيحيين. كنا سذجا إذ تركنا إدارة البلاد للمجلس الأعلي للقوات المسلحة, وأخلينا الشوارع والميادين للإخوان والسلفيين, واكتفينا ببيانات نخاطب بها أنفسنا, ويستهلكها منتجوها بكثير من النصر المتخيل, منها بيان صدر يوم16 فبراير2011 عنوانه( نحو دولة علمانية) يطالب بضرورة تعديل المادة الثانية من الدستور القائم آنذاك, بما يتوافق مع متطلبات التحديث والإصلاح التي نادي بها شباب ثورة25 يناير, عملا بمبدأ الدين لله والوطن للجميع, حيث إن مبدأ العلمانية في الدولة المدنية ليس نفيا للدين, أو نفيا لحق المواطن في ممارسة الشعائر, بل هو دعوة صريحة لفصل الدين عن الدولة ومبادئ التشريع فيها, بما يكفل لكل مواطن حقوقه الأساسية المشروعة, ومنها حق التعبير والاعتقاد. حث الموقعون أيضا علي استلهام دستور1923, وتقول مادته الثالثة: المصريون لدي القانون سواء, وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية, وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة, لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين, وتنص مادته الثانية عشرة علي أن حرية الاعتقاد مطلقة. أضاع العسكر فرصة ذهبية لبناء دولة القانون, وادعوا أنهم قاموا بحماية الثورة, وكانوا هم المستفيدين منها. أهانوا الدولة, وصادروا المستقبل, بحسن نية أو بسوء إدارة, ثم سلموا الجثة المغتصبة لشريك لهم في التواطؤ علي الثورة, منذ استفتاء19 مارس2011 علي تعديل مواد دستورية, بدلا من كتابة دستور مدني, قبل التفكير في إجراء الانتخابات. لكن قراءة التاريخ تدعوني للتفاؤل, وتزيد إيماني بأنها هدية مسمومة, وكما سحق قطار الثورة مبارك ورجاله, فسوف يواصل السير, ويقصي أعداءه عن الطريق المستقيم, حتي لو تلكأ قليلا في منحني الإخوان. ليس في هذا الاستعراض يأس, وكم أتفاءل حين أري لافتة اليأس خيانة مرفوعة في ميدان التحرير, ربما يكون في هذا نوع من جلد الذات, وما المانع أن تجلد الذات حين تستحق؟ من كان يتخيل أن ثورة رفعت يوم انطلاقها شعار: تغيير- حرية- عدالة اجتماعية تنتهي إلي استجداء هامش حرية ثارت لكي تنسفه, وتنال الحرية كاملة؟ لم يعد أحد يشير إلي تعديل المادة الثانية من دستور1971, وحذف مادة الشريعة, بل يبدأ النقاش باعتبارها هذه المادة من الثوابت التي لا يكتمل إسلام المسلم ولا وطنية المصري المسيحي إلا بالإقرار بها. أقرت المادة الثانية من دستور1954: السيادة للأمة.., وعدلت هذه المادة( الثانية) في دستور1964 فأصبحت: السيادة للشعب.., لكن بعض السلفيين أثاروا جدلا واسعا مطالبين بأن يتضمن الدستور الجديد مادة السيادة لله, ربما خوفا علي المصريين أن يعبدوا الشيطان! وقفت الثورة مكانها في منحني الإخوان الذي يستبدل فيه الدم أحيانا بماء آسن, يسمح بإضافة مواد ترشح الدستور الجديد للانضمام إلي قائمة الدساتير الطائفية, دساتير ما قبل الثورة الصناعية; إذ تقول المادة الرابعة: الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة, يختص دون غيره بالقيام علي كل شئونه, ويتولي نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية. وتقول المادة11: ترعي الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام, والمستوي الرفيع للتربية والقيم الدينية والوطنية, والحقائق العلمية, والثقافة العربية, والتراث التاريخي والحضاري للشعب; وذلك وفقا لما ينظمه القانون. ثم تأتي عصا موسي, المادة219: مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية, وقواعدها الأصولية والفقهية, ومصادرها المعتبرة, في مذاهب أهل السنة والجماعة. في المادة الحادية عشرة, كان العباقرة أحرص الناس علي أن ترعي الدولة, فيما ترعي, الحقائق العلمية, لكي لا يشكك مواطن, في لحظة سكر أو معصية, في قانون الجاذبية الأرضية, فينتفض نيوتن في قبره! سرد الثورة يدل علي عافيتها. كتب كثيرون في الثورة, بما يليق بجمالها وروعتها وخفة ظلها, حين كنا نلحم ونتفاءل. الآن نكتب عنها بكثير من التقريرية والجفاف, ونستدعي نصوص مواد دستورية, ونشعر بقلة حيلتنا, وهواننا علي الناس, ثم نفيق ونتذكر أن اليأس خيانة, وأن الثورة إلي الآن فقط, في منحني خطر, مستنقع عكر, فيه أعشاب وألغام دستورية من شأنها أن تدفع الإنسان للكفر بالحياة, وبالدين الذي يحرمه حق هذه الحياة, ويمنعه أن يفكر إلا وفقا لخيال أهل السنة والجماعة, ولو حكموا بكفر من يري أن الأرض كروية تدور حول محورها, حول شمس تجري لمستقر لها. أنظر إلي الأمام في حذر, وأتأمل30 شهرا, تاريخا يشيب لهوله الحالمون, حفل بالحلم والدم والمرارة والجسارة وأخيرا الرغبة في الفرز. أشعر بأن الثورة التي عمرها عامان صارت عجوزا, يعجز جسدها عن حمل أثقال وضعها أعداؤها وبعض فصائلها; فما أقسي أن تفضي ثورة إلي إحباط. ربما كنا متفائلين أكثر من اللازم, وأبرياء أكثر مما تحتمله العاصفة, ولكن أخطاءنا هدية لثورات عربية توشك أن تحقق هدفها الأول, إزاحة الدكتاتور, ثم تبدأ الخطوات الأكثر صعوبة, في بناء دولة المواطنة والقانون, بعيدا عن الرغبة في الإقصاء, ويقين البعض أن الطريق إلي الجنة مفروش بجثث شركاء الوطن. أهل اليقين هؤلاء ينطبق عليهم قول ابن سينا: بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم. لكن الآمال تتجدد بقوة; فالثورة فكرة لا تموت, هي في الشارع, عصية علي التطويع, قادرة علي تصحيح مسارها, وتصويب أخطائها, إيمانا من حملة الراية بأن التاريخ لا يرجع إلي الوراء, والثورات أيضا, والشعب المصري عصي علي التطويع, ولم ييأس, وقد أشرقت شمس30 يونيو منذ نوفمبر2012, بعد كارثة الإعلان غير الدستوري الذي منح مرسي به لنفسه سلطات مطلقة, وقبل ذلك الإعلان المشبوه, كان الشعب علي قلب رجل واحد, وكان رئيسه ضحية وجوده كمجرد عنصر في التنظيم, ناسيا ان الشعب اختاره رئيسا للنظام. [email protected] رابط دائم :