هل يعقل أن تمر دولة بما تمر به مصر من ترد سياسي وانشقاق إلي حد ينذر بكارثة ويصم أبناؤها آذانهم عن صوت العقل ويندفعون وراء شهوات سياسية ستدفع ببلادهم إلي الخراب؟ قد يكون هناك جانب من حق فيما يقال لمن هم يعتصمون في ميداني رابعة العدوية والنهضة ولكنه حق يراد به باطل وهو تدمير هذا البلد فهم يتحدثون عن شرعية ضاعت ويطالبون بعودة رئيس مخلوع.. ولكنهم يتناسون عن عمد أو عن جهل أن ما حدث في مصر ثورة شعبية وليس انقلابا كما يدعون وأي عاقل لديه ذرة من وعي شاهد ذلك الزخم البشري وتطالبه بمحاربة الارهاب يعلم أن مصر ليست مرتعا لفاقدي الوعي السياسي والمنفصمين والمنقسمين وأصحاب الشعارات الجوفاء. ولعل من يقف في رابعة أو النهضة ويري أن روحه فداء لمعتقده الديني والسياسي يتدبر ويتفكر قليلا كيف تكون السياسة والدين لعملة واحدة؟.. هل تدني الدين في نفوسنا إلي حد يتساوي فيه أم أن ما يحدث علي الساحة السياسية ليس إلا نوعا من المتاجرة واستغلال الدين في المعترك السياسي عن جهل وتعمد فيه تغاب سياسي وديني. إن من يعنيهم فكرة الوصول إلي حكم إسلامي ويقفون ثائرين عن يقين بأحقية هذا ولو كلفهم ذلك حياتهم من منطلق الجهاد والشهادة كان لابد وأن يتجهوا إلي صحيح الدين والقيام بثورة تنويرية فكرية تقدم للمجتمع تصورا لمستقبل يحمل الخير لمصر فليس بالشعارات يمكن تطبيق المنهج الإسلامي في نظم الحكم ولكن كان لابد من تأسيس مشروع سياسي قائم علي مباديء الشريعة الاسلامية وطرحه للنقاش المجتمعي في حالة من الحراك السياسي الطبيعي ولكن ما حدث أن الإخوان المسلمين لم يعنيهم عندما تولوا السلطة غير التمكين والتغلغل في كيان الدولة ومفاصلها وهذا أثار ضدهم عداوات كثيرة وخلق في طريق إدارتهم للدولة عراقيل كثيرة انتهت بعزل الدكتور مرسي وكما أقصي الإخوان كل الفصائل السياسية من المشهد السياسي وهم في الحكم أقصاهم الشعب اليوم وعليهم أن يتدبروا أمرهم ويعيدوا ترتيب أوراقهم لخوض المعترك السياسي من جديد ولكن بفكر متطور يحمل التنوير لمصر لا العناد الذي يحمل لمصر الخراب. ومن المدهش حقا اننا نتحدث عن حاجة مصر لفكر إسلامي متجدد وحركة تنويرية تحمل مشعل النور للمستقبل دون أن نتذكر أجدادنا الذين خاضوا مع مطلع القرن التاسع عشر ثورة فكرية ودينية تنويرية ووجدنا قامات عالية من العلماء والمفكرين من أبناء مصر ومن خارجها يحملون مشاعل من نور أضاءوا بها العالم العربي كله وكانت الشرارة الأولي من مصر قلب العالم العربي حيث بدأت الحركة التنويرية في عهد محمد علي الذي أرسل بعثات إلي الخارج ووجد الفكر الليبرالي طريقه إلي مصر وتفتق ذلك عن انتشار مدرستين فكريتين في مصر الأولي متحفظة تري أن الليبرالية خطورة علي مباديء وتقاليد الشرق والثانية تؤكد ضرورة حرية التعبير عن الرأي وأن حرية التفكير ضرورة ومع هاتين المدرستين كان لابد من وجود منهج وسطي يحافظ علي تقاليدنا وديننا وشريعتنا وفي نفس الوقت نأخذ بكل ما هو جديد و قاد منهج الوسطية هذه علماء أجلاء مثل جمال الدين الأفغاني, الشيخ محمد عبده و هؤلاء أيقنوا ضرورة الإصلاح في الأزهر الشريف حيث قام محمد عبده بالدعوة للإصلاح ونشر التنوير والعلم. إن جهود هؤلاء الرواد كانت محاولة لتحرير الفكر الإسلامي من قيود التقليد الممعن في الجمود واصلاحه بما يجعله منسجما مع مطالب الحياة ولم يجدوا تعارضا بين تعاليم الاسلام والفكر العقلاني الآخذ بأساليب المدنية الحديثة. وكما يقول الافغاني ومحمد عبده: الاسلام منور للعقول فالعقيدة الاسلامية تلزم معتنقيها بالتبصر في الفنون والعلوم كالطبيعة والكيمياء وغيرها وبهذا المنهج أسدي المصلحون كما ذكر الشيخ مصطفي عبد الرازق خدمة للدين والعلم معا بما أيدوا من حرية العقل من وجه ديني وبما أنهوا من أسباب لعداوة بين الدين والعلم. واليوم نحن نعيش نفس الصراع في صورة جديدة متمثل في صراع سياسي مع الدين قد يعصف بنا إلي الهاوية أو أن يلتقي المتصارعون بفكر مشترك تنويري جديد لصالح هذا البلد.