طرقات متتالية تعلن بها ورشة الحاج أحمد لصناعة النحاس اليدوي عن استمرارها في مقاومة الفناء وسط شارع المعز لدين الله الفاطمي بالقاهرة القديمة، يجلس الرجل الخمسيني منحنيا علي طاولة اشتهرت بها صناعة نقش النحاس ومطرقة صغيرة لا تهدأ. يقول الحاج أحمد: "لم يعد هناك من يقدر فن النقش علي النحاس، فالمعدن نفسه صار غاليا ولم يعد جذابا للمشترين المصريين؛ إلا من يعرفون قيمته إذ وصل سعر الكيلو لحوالي 95 جنيها، مما يعني أن صانية واحدة وزنها 6 كيلو قد يصل سعرها ل 600 جنيه خام فقط". في البدء كانت الآنية النحاسية ضرورة في جهاز كل عروس، لكن مع انتشار معادن أكثر رخصا وأكثر عملية مثل الألومنيا ثم الاستانلس المقاوم للصدأ توارت الآنية النحاسية، وانتهت عدة مهن مرتبطة بها، أولها ورش الزخرفة وتشكيل النحاس، وكذلك مهنة مبيض النحاس. يؤكد الحاج أحمد أن من يشترون النحاس الآن يشترونه كقطع فنية، وأنه لا يستطيع أن يبيع بضاعته إلا لزبون "فاهم قيمة ما يشتريه"، حتي يستطيع تقدير الجهد المبذول في تشكيل قطعة النحاس. يقول: "إن لم يكن الزبون يعرف ما يشتريه، صعب إقناعه بأي سعر". ومن هنا صارت أزمة النقش علي النحاس أكثر حدة، فمع انهيار السياحة وانحسار أعداد زوار مصر من المولعين بشراء المنقوشات اليدوية، أصبح من النادر بيع قطعة نحاس منقوشة يدويا، استغرقت 15 يوما في صناعتها علي الأقل وفقا للحاج أحمد، الذي يؤكد : "السياح كانوا يشترون النحاس لأنهم يعلمون قيمة المنتج ومدي جودته، أما الآن فقليلا ما تجد من يأتي للبحث عن هذه الآنية". هناك عدد كبير من الورش صارت تبيع صواني الزنكوغراف بديلا عن النقش اليدوي الأكثر صعوبة وهي أرخص من المنقوشة يدويا. يتحايل الحاج أحمد علي الأزمة بصناعة قطع الحليّ الصغيرة المنقوش عليها الأسماء، فهي الآن السلعة الرائجة. لا يختلف الحال كثيرا بالنسبة لتامر (37 عاما)، وهو ينتمي لجيل آخر؛ إذ ورث الصنعة عن أبيه وجده، ويقول: "كانت الستينيات هي العصر الذهبي لصنعة النقش علي النحاس، إذ كان المعدن رخيصا وكان يلقي إقبالا من المصريين والأجانب علي حد سواء". يعمل تامر في إحدى شركات البترول صباحا، ويأتي إلي محله الصغير ليلا فلم تعد مهنة النقش علي النحاس تكفي قوته وقوت أولاده خاصة مع إحجام السياح عن زيارة مصر بعد الثورة. يضئ محل تامر شارع المعز الذي انطفأت مصابيحه بعد غرق الشارع الأثري بمياه الصرف. يقول تامر: "انطفأت المصابيح التي كانت موضوعة بجوار المباني الأثرية من أسفل بسبب غمرها بالمياه وهذا سبب مفهوم وواضح، لكن غير المفهوم هو انطفاء المصابيح التي كانت موضوعة أعلي المباني، وورشتنا هي المكان الوحيد المضيء في الشارع، وأري بنفسي السياح يعزفون عن دخول الشارع مساء خوفاً من الظلام ومن الوضع الأمني بالبلاد". رابط دائم :