يتصارع المؤرخون على جمع المعلومات لعمل أرشيف وطني، ولكن القرارت الخاصة بما تتضمنه هذه المعلومات ذات مغزى سياسي، ولدى المصريين حساسية خاصة من المحاولات الرسمية لكتابة التاريخ، كما أن التوثيق فى حد ذاته فعل ثوري ومناورة محفوفة بالمخاطر، وفقا لتقرير جاك شينكر في صحيفة(الجارديان) البريطانية. وتحت أي مسمى فإن صوت ميدان التحرير في مساء القاهرة يتحكم فيه ثقل تاريخها الحديث، فالحلي الصغيرة والقلائد التي تحمل صور شهداء ثورة 25 يناير، والمتمرسون في الثورة الذين التقطوا رصاصات الشرطة المحروقة من الأرض، ومصنفات "يوتيوب" التي تعرض في الشوارع عن المتظاهرين والمصادمات مع قوات الأمن تحت سحب الغاز المسيل للدموع، هي الذاكرة الجماعية التي وثقها الشعب من أجل الشعب، بدون وجود إشراف من الدولة لتحديد ما تم تذكره أو نسيانه. يقول خالد فهمي، المؤرخ والأكاديمي:المصريون حساسون للغاية إزاء المحاولات الرسمية لكتابة التاريخ وخلق روايات تتبناها الدولة عن الأحداث التاريخية. وأضاف فهمي وهو أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة نيويورك: عندما كان حسني مبارك نائبًا للرئيس السادات في السبعينات، كان مكلفًا من قبل لجنة حكومية بكتابة أو إعادة كتابة تاريخ ثورة 1952 لتتناسب مع الأغراض السياسية للنخبة في ذلك الوقت وهو ما نريد أن نتجنبه الآن. وأكد فهمي أنه يعلم جيدًا التوتر الذي يحدث بين أعمال المشاركة الشعبية الجماعية والمحاولات الرسمية لفهرستها وتسجيلها، وفي خلال أقل من أسبوع بعد سقوط الرئيس السابق مبارك، تلقى فهمي اتصالا هاتفيًا من رئيس دار المحفوظات الوطنية في مصر الذي طلب منه الإشراف على المشروع الفريد الجديد الذي من شأنه توثيق التحولات السياسة الدرامية والاضطرابات الاجتماعية هذا العام، وجعل ذلك متاحًا للأجيال المصرية المقبلة. ويضيف فهمي: في البداية كنت مترددًا جدًا، لأني لم أكن أريد أن يظن الناس أننا نقدم سردًا نهائيًا لأحداث الثورة، لكني بدأت التفكير في الإمكانيات المتاحة وفجأة وجدتني متحمسا لأن أكمل العمل. يشير فهمي إلى أن لجنة توثيق ثورة 25 يناير يعمل بها متطوعون ويرسمون كل شيء عن السجلات الرسمية ومنشورات الثورة في لقطات الوسائط المتعددة والتحديثات على تويتر وفيسبوك، ويهدف هذا المشروع وفقا لرؤية فهمي إلى جمع البيانات الأولية عن الثورة قدر المستطاع وإيداعها فى "الأرشيف" المحفوظات، وذلك يمكن المصريين الآن وفى المستقبل من سرد وشرح هذه الفترة المحورية. أضاف فهمي أن المشروع سيقوم بجمع مئات الساعات من الشهادات المسجلة من المتظاهرين الذين انخرطوا في النضال من أجل إسقاط مبارك، بصرف النظر عما إذا كانوا مؤيدين للثورة أم لا. وفي مناورة محفوفة بالمصاعب، وخاصة في الوقت الذي أصبح فيه سؤال من الذي سيتحدث عن الثورة؟" يثير المرارة بشوارع القاهرة وأماكن أخرى كثيرة، وتساءل فهمي "توثيق الثورة كان يبدو سهلا... ولكن ما هي الثورة؟" و"متى بدأت؟" و"متى انتهت؟"، "وماذا تشكل المشاركة فى الثورة؟" هل تقتصر فقط على أولئك الذين ذهبوا لميدان التحرير أم الأطباء الذين كانوا يعملون لساعات طويلة لإسعاف الجرحي، أو الضباط الذين قاتلوا مع المتظاهرين، هل هم جزء من الثورة أم لا؟. ويكمل فهمي: لا توجد نظريات أكاديمية حول الإجابة عن هذه التساؤلات، وعلى مدى ال5 أشهر الماضية كان المجلس العسكري الحاكم يسعى لتحجيم نطاق الثورة سواء بإصدار البينات أو سن القوانين، وقاموا بتطبيق ذلك بشكل صارم خلال 18 يوما من التظاهرات فى الشوارع والتي أدت فى النهاية إلى الإطاحة بمبارك، مع تباين إيثار المحتجين ونكرانهم للذات مع التخريب والمصلحة الذاتية، في الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات من قبل العمال وغيرهم من الجماعات المطالبة بالتغيير السياسي. كما أن هذا الشهر قد شهد عشرات الآلاف من المحتجين بميدان التحرير بجميع مراكز ومدن البلاد، مبررين ذلك بأن الثورة قد اختطفت على ايدي الاتجاهات المحافظة، وتقدموا بمذكرة قوية لإدعاء الجيش أنه قد حان الوقت لإنهاء النضال السياسي الشعبي. ويوجد صراع حول قيادة عملية التغيير الثوري، وهو مايمكن أن يعيد العنف إلى الشارع المصري، حيث يتم مشروع فهمي في قلبه. في اليوم الذي أجرت فيه الجارديان مقابلة مع فهمي قررت واحدة من اللجان التي تضم مجموعات للعمل في التوثيق، تغيير يوم البداية لعمليات التوثيق التي كانت قد قررت أن تبدأ في 14 يناير وهو يوم هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، من منصبه، لتبدأ في يونيو 2010 عندما قتل الشاب السكندري خالد سعيد، في وضح النهار على يد شرطيين، في واقعة حشدت عديدا من المصريين ضد نظام مبارك، وسيكون يوم النهاية لهذا المشروع اللحظة التي تعتبر فيه اللجنة بشكل رسمي أن الثورة انتهت، وسيصبح ذلك أكثر إثارة للجدل، لأن الثورة مازالت مستمرة. "كل أعضاء اللجنة التي يمتد نطاقها من النشطاء إلى المدونين إلى الأكادميين ممن لديهم وعي سياسي، و نحن ندرك أن صنع هذا النوع من القرارات هو إشكالية" يقول فهمي بإصرار "شعوري الشخصي هو أن الثورة لم تكتمل حتى الآن ونحن الآن فى المرحلة الثانية منها والتى تتطلب كبح جماح الجيش والتى قد تكون أكثر صعوبة من معركة الإطاحة بمبارك". وإذا نحينا جانبا طبيعة الصراع في مرحلة مابعد مبارك، يعتقد فهمي أن لجنته التاريخية، لديها هدف ثاني أخر أكثر من نية التخريب. كما هو شائع في معظم الأقطار العربية، فإن قدرة الناس على الوصول إلى المعلومات الرسمية في مصر يكاد يكون شبه معدوم، مع أرشيف الدولة المدفون تحت شبكة عتيقة من القيود الأمنية وثقافة عميقة الجذور فى الحكومة المصرية التى اعتادت على تدمير أو اخفاء أي سجلات يمكن أن تكون محرجة. يأمل فهمي أن تمهد المبادرة الأخيرة إلى تغيير جوهري في الطريقة التي يرى بها المصريون علاقتهم مع معلومات الرسمية، كذلك علاقتهم مع الدولة نفسها. ولكن إذا كان الشعب هو الذي يصنع التاريخ ثم يجب أن يكون الشعب أيضا كذلك هو من يكتبه ويقرأه وفقا لفهمي الذي أصر من البداية على أن كل المواد التى تجمعها لجنته لابد وأن تكون متاحة على شبكة الانترنت لأي شخص، وهذا القرار يحطم نموذج الدولة السرية الذي استمر لعقود. اليوم مازال أي شخص يرغب في إعداد دراسة علمية عن الموانئ المصرية في القرن الثامن عشر، يجب أن يتقدم للاستجواب في وزارة الدفاع. "مسألة الوصول للمعلومات والأرشيف هو أمر سياسي لأن قراءة التاريخ هي تفسير التاريخ، وتفسير التاريخ هو الطريق الوحيد لصناعته"، يضيف فهمي "حجب الناس عن مصادر تاريخهم هي إشارة سياسية، وبالتساوي فإن الانفتاح على المعلومات هو فعل سياسي حتى لو كان ثوريا. لجنة فهمي ليست المجموعة الوحيدة التي تحاول شق تقليد الكتمان الرسمي الممتد منذ أمد طويل. بعد أسابيع قليلة من سقوط مبارك، قام محتجون بنهب مقرات أمن الدولة، المعروفة بسمعتها السيئة، حيث تم الاستيلاء على ألاف الوثائق السرية، ووضع العديد منهم على الانترنت. الشهر الماضي وضع البلد الذي يحصل على حريته لأول مرة تم وضع قانون للمعلومات، رغم عدم وجود ضمانه، أنه سيطبق على الكتب. وبالرغم من كل العقبات المؤسسية، فإن فهمي على يقين من أن حجم وطبيعة هذه السنة الثورية، تعني أنه لن يكون هناك إمكانية لعودة المصريين لأيام كانوا فيها معزولين عن خلفيات والذين يحكمون باسمهم. كانت ثورة بلا قادة، لكنها اندلعت بالمشاركة الجماعية، ويشرح فهمي: الطريقة التي نكتب بها التاريخ الآن ستصبح جزءا من العملية نفسها، وستصبح هذه طريقتنا للوصول لهذا التاريخ، وهذا بالنسبة لي جزء من الثورة أكثر من أي شئ آخر.