على مدى تاريخنا الحديث، كان الاستثمار الأجنبي أشبه ببقرة ترعى في أرض الوطن وحليبها يشربه الخارج، حيث أظهرت تجربتنا مع ذلك النوع من الاستثمار العابر للحدود، أنه يحمل في أحشائه جميع الأبجديات المعروفة لمخاطر الشركات متعددة الجنسيات، دون استفادة حقيقية لاقتصادنا، اللهم إلا في التشغيل والضرائب. الاستثمار الأجنبي المباشر، في أبسط تعريفاته "الحميدة" هو أن يمتلك مستثمر مستقر في بلد ما "البلد الأم" أصلًا "شركة على سبيل المثال" في بلد آخر "مستقبل الاستثمار"، مع إدارة ذلك الأصل، بغية تحقيق أعلى ربح ممكن، أما معناه الخبيث فقدمه الملياردير وارين بافيت، رئيس شركة "بيركشاير هاثاواي"، ثامن أكبر شركة عامة في العالم ورابع شركة مثيرة للإعجاب دوليًا، والذي يقول إن أفضل وقت لشراء شركة عندما تكون في ورطة أو حينما تكون على طاولة العمليات". وبرغم إيجابيات الاستثمار الأجنبي المباشر في زيادة التشغيل بالبلدان التي تسجل موازنتها عجزًا كبيرًا مثل مصر، واعتباره المحرك الأساسي لعملية التصدير؛ مما يساهم في معالجة عجز ميزان المدفوعات وزيادة الحصيلة من العملات الأجنبية، بجانب جذب التكنولوجيا الحديثة والخبرة الإدراية، إلا أن عيوبه كلها انطبقت على بلد الأهرامات، حتى أضحى شبيهًا بطفيل يتغذى على أجسادنا لينمو، فلم نر مستثمرًا أجنبيًا في تاريخنا العتيد، تبنى إستراتيجية التنمية التي تبنتها الدولة، حتى توشكى "الهرم الرابع"، مثال صارخ على المساوئ.. أعطينا جله لملياردير أجنبي، فلم يزرع سوى ألف فدان من أصل 100 ألف حصل عليها، والأنكت أن ما زرعه هو برسيم حجازي كثيف الاستهلاك للمياه. اعتقاد الحكومة بأن الاستثمار الأجنبي المباشر يأتي أساسًا لخدمة الاقتصاد المصري، كمن يعتقد بأن الراعي يرعى الغنم لمصلحتها وليس مصلحته الخاصة، فحكومات المحروسة خصوصًا، في فترة ما قبل الثورة، اهتمت بجذب الاستثمار الأجنبي أيًا كان نوعه أو طبيعة نشاطه، وبصرف النظر عما إذا كان سيساهم في التنمية أم لا، فلا فرق لديها بين من يأتي لافتتاح مطعم أو مقهى أو مول يشغل عشرين عاملًا، وبين مصنع كثيف التشغيل يوظف آلاف العاملين، مما جعل مصر تحقق معدل نمو بنسبة 7٪ واستثمار أجنبي بنسبة 9٪، دون أن تتحسن الأحوال الاقتصادية، بل على العكس ارتفعت البطالة إلى 9%. معظم المستثمرين الأجانب في مصر يتجهون للقطاعات الاستهلاكية الهامشية، سريعة وكثيرة الربح، كالنشاطات المصرفية، والاستهلاكية التجارية، فلدينا 90 مليون فم مفتوح، تغري المزيد والمزيد من المتاجر، مع خلطة إعلانات سحرية تعزز الشراء وتوئد الادخار، فالدعاية أرخص طريقة لبيع البضائع، خاصة إذا كانت عديمة القيمة، كما يقول سنكلير لويس الحاصل على جائزة نوبل عام 1930. لدينا أشهر المطاعم العالمية التي تنحي المنافسين المصريين من السوق، وعائدها للخارج ولا نحصل منها سوى على رواتب العاملين بها، وضريبة مبيعات يدفعها المستهلك على الفاتورة، وعندنا فروع لأكبر المتاجر العالمية منها مجموعة فرنسية، تحتل المرتبة الثانية عالميًا ويقبل المصريون عليها، برغم أننا نمتلك مئات المتاجر الأخرى التابعة للدولة كدلتا والأهرام والنيل وأوكازيون، بجانب متاجر القطاع الخاص المصري، والأغرب أننا زيادة في الوفاء والتكريم سمينا منطقة كاملة في المعادي، باسم تلك السلسلة. المستثمرون الأجانب في مصر خلقوا "دولة داخل الدولة"، فهم -كما يقول خبراء الاقتصاد- واجهة أمامية لاقتصاد أجنبي محتكر، كقطاع الأسمنت، الذي يسطر عليه الأجانب، ويمثل قوة احتكارية في التسعير، إذ تجتمع تلك الشركات مع بعضها البعض لتحديد سعر السوق المحلية، الذي هو الأعلى في العالم، ليباع المنتج المصنوع في مصر للخارج ب 500 جنيه، وفي السوق المحلية ب 800 جنيه، مما يزيد أرباح الشركة الأم، على حساب مصر "البلد المستضيف". لدينا 39 بنكًا في مصر حصة الأجانب منها النصف بالتمام والكمال، تحقق أرباحًا قياسية، وسط حالة من تعارض المصالح بين رغبة تلك غير المصرية في تحقيق أرباحها المخطط لها، وسعي الحكومة لتحقيق تنمية اقتصادية بمساهمة ومساعدة من البنوك، حيث باتت تلك المصارف وسيلة لتسريب الاستثمارات المباشرة للخارج، كما حدث في عام 2010 /2011 الذي شهد تسريب 7.4 مليار دولار، مقارنة بنحو ملياري دولار عام 2004. بالإضافة الي زيادة الواردات التي ارتفعت من 14.8 مليار دولار عام 2003 ل 50.8 مليار دولار عام 2011، وارتفاع عجز الميزان التجاري من 6.6 مليار دولار إلى 23.8 مليار دولار في الفترة ذاتها. ومثلما يتسرب الماء من اليدين، تتسرب موارد الدولة من العملات الأجنبية للخارج بمنتهى السلاسة، نتيجة لزيادة إيداعات فروع البنوك الأجنبية بمصر لدى المركز الأم في الخارج، والتي ارتفعت من 43.3 مليار جنيه عام 2004 إلى 96.1 مليار جنيه عام 2011، بجانب إعطاء ميزات نسبية للمستثمرين الأجانب علي حساب المحليين، كما أن شراء البنوك غير المصرية العاملة بالسوق المحلية أذون وسندات الخزانة، يساوي بين الديون المحلية والخارجية للحكومة في التأثير على سيادة الدولة، وقراراتها، كما يرى العديد من الخبراء المصريين. ونظرًا لأن الاستثمار الأجنبي يأكل "الجبن بالجبن"، فإنه يفر هاربًا مع أي اضطراب أو أزمة أمنية؛ مسببًا مشكلة نقدية عند تحويل أرباحه بالدولار للخارج، مشردًا في الوقت نفسه العمال الذين ينضمون لطابور البطالة الطويل، علاوة على بضائعهم التي تناسب الخارج في الأذواق والسعر، وتخلق نزعة استهلاكية لدى القطاعات منخفضة الدخل لتستهلك جملة دخلها الشهري، لمجرد الرغبة في تجربة -ولو وحيدة- لبضائع الأغنياء أو صورة "سيلفي" داخل مطعم من مطاعمهم. إذا أردنا استثمارًا أجنبيًا حميدًا يخدم الاقتصاد، يمكننا تكرار تجربة الصين ثاني أكبر مستقبل للاستثمار الأجنبي في العالم بعد الولاياتالمتحدة، التي قسمت الاستثمار الوافد لأربعة فئات أولها مشروعات تشجعها وتدعمها بالمناطق الغربية والوسطى والتي تسعى بكين لتنميتها وتخصها بمعاملة تفضيلية وبمزايا وحوافز أكبر من تلك الممنوحة للاستثمارات في المناطق الشرقية الأغنى، وتلك المشروعات تتعلق بالتكنولوجيات الزراعية الحديثة والتنمية الشاملة وصناعات الموارد والنقل والمواد الخام المهمة، والمشروعات التي تقدم تقنيات عالية وحديثة، والصناعات التي تحسن نوعية المنتجات وترفع الفعالية الاقتصادية أو تنتج التجهيزات والمواد الجديدة التي تعجز القوة الإنتاجية الصينية على إنتاجها بكمية كافية. أما الفئة الثانية، فتشمل المشروعات، التي لا تحظى بدعم مماثل للمشروعات السابقة وترتبط بالمنتجات التي تصدر إلى الخارج مباشرة أي التي تجذب موارد دولارية، بينما تتعلق الفئة الثالثة بالمشروعات المقيدة، وتشمل الصناعات المتخلفة في المستوى التقني، وتلك التي لا تصب في صالح توفير الموارد وتحسين البيئة، وكذلك مشروعات التنقيب واستخراج أنواع معينة من المعادن التي تفرض عليها حماية، ولا تحظي بموافقة إلا إذا كان 70٪ منها يتم تصديره، وبالنسبة للفئة الرابعة فتشمل مشروعات محظورة كالتي تلوث البيئة وتدمر الموارد الطبيعية وتضر بصحة الإنسان، أو التي تستهلك قدرًا كبيًرا من الأراضي الزراعية، وكذلك التي تستخدم الحرف أو التقنيات التي يتميز بها التنين الصيني. والدولة -وهي تسعى حاليًا بكل ما أوتيت من قوة لجذب استثمار أجنبي حقيقي من الخارج، وبدأت بالفعل تحركات حثيثة في هذا الاتجاه باتفاقاتها مع مستثمرين ألمان وفرنسيين وصينيين - يجب أن تفرق بين استثمار اقتصادي، كمستثمر يأتي لبناء مصنع جديد يوظف آلاف العمال ويفتح بابًا للتصدير، وآخر يستحوذ على مصنع قائم بالفعل، ولا يضيف له أي خطوط إنتاجية أو أي عمالة جديدة. يجب عليها أيضًا أن تقيم تجربتنا السابقة، وأن تقضي على البيروقراطية التي تعوق الاستثمار الحقيقي، وأن تُفعِّل الشباك الواحد الذي نسمع عنه منذ منذ نعومة أظافرنا، وأن تحل مشكلات المستثمر المحلي الذي سيكون خير دعاية أمام الأجانب، وأن تنظر بعين الاعتبار لتجربة المغرب التي باتت مركزًا عالميًا لصناعة السيارات وتصديرها.. يجب أن نواجه السلبيات بوضع حلول لجذب استثمار اقتصادي كثيف التشغيل، ينقل البلاد للأمام حضاريًا واقتصاديًا.. نريد مستثمرًا يعلمنا كيف نبني القاطرات، ونقيم المحطات، وندشن الترسانات، بدلا من مستثمر يعلمنا كيف نقلي الاستربس، ونعد البيتزا، والكورن فليكس؟.