صدر العدد 62 من مجلة "الديمقراطية" عن مؤسسة الأهرام، حيث يرصد تصاعد الاهتمام علماء السياسة بمفهوم الشعبوية Populism، لما يبدو من تفشى الظاهرة بأشكال متنوعة فى مختلف النظم السياسية، حتى أصبحنا نعيش فى ظل ما يشبه اللحظة الشعبوية أو المزاج الشعبوى العام. فمن ظاهرة دونالد ترامب فى الولاياتالمتحدة، إلى اليمينية المعادية للأجانب فى أوروبا، إلى الشعبوية الجديدة فى أمريكا اللاتينية، أصبحت للظاهرة تداعيات وأشكالًا فى معظم أقاليم العالم. وفى مرحلة ما بعد الثورات العربية وسيادة الخطاب التعبوى والنزعة الاستقطابية والمعادية للنخبة، وتجذر الاعتقاد فى نظرية المؤامرة والتوق إلى القادة الملهمين أو المخلصين، دخلت المنطقة، بقوة، فى سياق تلك الحالة الشعبوية. ويرى البعض، أن تنامى ظاهرة الشعبوية فى العقدين الأخيرين، جاء كرد فعل لقصور الديمقراطية النخبوية، وأزمة الديمقراطية التمثيلية، التى اختزلت الإرادة الشعبية فى مواسم الانتخابات، سواء فى الديمقراطيات المستقرة، أو تلك التى لا تزال تحبو على الطريق. كما يربط البعض هذا الصعود بتداعيات الأزمة المالية العالمية، والتى شكلت بيئة خصبة للإقبال على خطاب يستلهم «صوت» المهمشين، أو يطرح حلولا للخروج من خناق الأزمة. ورغم تباين صور ومضامين الشعبوية من سياق لآخر، بدرجة تدفع الكثير من المنظرين إلى التشكك فى جدوى المفهوم، كإطار تحليلى، قد يتسع ليشمل أيديولوجيات، ونظم حكم، وخطابات شديدة التباين، إلا أن جوهر الظاهرة يتمثل فى عدد من الأبعاد الأساسية منها: تنامى الاستقطاب تجاه عدو داخلى أو خارجى، وتصاعد خطاب تبسيطى "يؤله الشعب" ويوظف لغة "الجماهير"، ويقوم على الشحن العاطفى، وتراجع الثقة فى النخبة، والطبقة السياسية، وأشكال التنظيم السياسية الوسيطة، وظهور القيادات التى تستلهم رضاء الجماهير، وتؤسس شرعيتها على ادعاء تمثيلها للإرادة الشعبية "النقية" أو الحقيقية. نتيجة لهذا التنوع فى تجليات الظاهرة، تعددت مداخل النظر إليها ودراستها فى أدبيات العلوم السياسية. فهناك أربعة مداخل أساسية فى النظر إلى الشعبوية باعتبارها: أيديولوجيا، منطق أو منهج تفسيرى، خطاب، أو إستراتيجية للحشد والتنظيم. وللتغلب على هذه السيولة المفاهيمية، ظهرت اتجاهات تعرف الشعبوية بأنها أسلوب سياسى political style يغلب عليه نوع من "الأدائية" Performance فى سياق سياسى معاصر تلعب وسائل الإعلام فيه دورا أساسيا، حيث تحل وسائل الاتصال وأدوات التواصل المباشر مع الجماهير فى هذا النموذج أو الأسلوب، محل الأدوات التقليدية لتنظيم العمل السياسى، وتصبح الوسيط الرئيس للتسويق السياسى ولإدارة الاتصال والحشد الجماهيرى. أما الديماجوجية التى أحيانا ما تستخدم كمرادف للشعبوية، فهى مصطلح أقدم، ولكن مدلوله أكثر محدودية، وتغلب عليه السلبية، ويشير إلى أكثر مظاهر الشعبوية تطرفا، خاصة غلبة اللاعقلانية، كما ينطوى عادة على فكرة تعمد التضليل. وتشتبك مجلة الديمقراطية فى ملف هذا العدد مع مفهوم الشعبوية فى تجلياته المختلفة، خاصة من حيث علاقته بالديمقراطية. وبالرغم من أن مصطلح الشعبوية ذو مدلول سلبى فى معظم أدبيات الديمقراطية، من حيث إنه يعبر عن جماهير مستلبة وقيادة أبوية، إلا أنه ظهرت اتجاهات مؤخرا، ترى أن الشعبوية لا تمثل بالضرورة نقيضا حتميا، أو عدوا للديمقراطية. فمن حيث المبدأ، وإن تم فى أغلب الأحوال إساءة استغلال هذا الزعم، فإن الشعبوية تهدف إلى وضع المطالب والأصوات المهمشة للشعب أو الجماهير العريضة محل الاعتبار، وهو ما يتماشى مع جوهر المثال الديمقراطى. أما الاتجاه السائد، فيذهب إلى أن الفرضية الأساسية للتوجهات الشعبوية بتجانس الشعب ووحدة إرادته تأتى بالضرورة على حساب احترام التعددية وحقوق الأقليات. فى نفس السياق، فإن العلاقة المباشرة بين القائد والجماهير، والعداء للأشكال التقليدية للسياسة، قد تفتح الباب أمام الخروج على القانون، أو الانتقائية فى إعماله، دون أن يرتب ذلك بالضرورة تبعات على شعبية القائد، طالما ساد التصور أنه يتصرف تعبيرا عن الإرادة الشعبية، الأمر الذى يشكل بيئة تسمح بالانتكاس الديمقراطى، ارتكانا إلى فرضية تمثيل إرادة الشعب. ويقدم ملف هذا العدد من مجلة الديمقراطية، وجبة ثرية تتناول مفهوم الشعبوية، فى أصوله النظرية وتطوراته فى السياقات المختلفة، وعلاقاته بالمفاهيم والخطابات ذات الصلة، والنسق السيكولوجى لكل من القائد والجماهير. كما تتناول مقالات الملف دراسات تطبيقية للظاهرة الشعبوية فى بعض نماذج الديمقراطيات الغربية، وفى إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، فضلا عن تجلياته فى المنطقة العربية فى مرحلة ما بعد الربيع العربى.