بعد إعلان المشير عبدالفتاح السيسى ترشحه رسميا لانتخابات الرئاسة، وقبل ذلك حمدين صباحى كمنافس رئيسى، اجتهدت كثير من الكتابات فى توصيف الإطار الأيديولوجى للمعركة الانتخابية القادمة، وذهبت أغلبها إلى تصنيف المرشح الأول كمعبر عما يسمى بالتيار «الشعبوى» ووصف الأخير بالممثل للتيار «الناصرى». فما هى التعريفات العلمية لتلك التصنيفات الأيديولوجية؟ وما هى الفروقات الحقيقية بينها ان وجدت؟ وهل بالفعل أننا ازاء معركة ايديولوجية ؟ وهل هذا ما تحتاجه مصر الآن؟ هذه بعض الأسئلة التى يمكن أن تثيرها تلك التصنيفات . إن «الشعبوية» Populism هى مصطلح سياسى معروف، وقد يكون مشتقا من كلمة الشعب، ويقصد به نوع من الخطاب السياسى الحماسى، الذى يتوجه به القائد لشعبه لكسب تأييده على ما يتخذه من سياسات أو مواقف أو مبادرات. ويشترط فى هذا الخطاب أن يكون مبسطا أى يصلح لعامة الناس، وألا يغرق فى تفاصيل قضايا معقدة، مثلما يعتمد على مخاطبة العاطفة، فيكون صدى لصوت الشعب فى لحظات الخوف أو القلق أو الغضب. إن التصور هنا أن الخطاب الشعبوى يتفاعل مع الجماهير، وعادة ما يزدهر مثل هذا الخطاب فى أوقات الأزمات، أو فى ظل غياب أو ضعف دور الأحزاب السياسية . هو بعبارة أخرى - وكما يراه البعض - يعد نوعا من أساليب ممارسة الديمقراطية المباشرة . وقد عرف العالم الكثير من الزعامات «الشعبوية» سواء فى أوروبا ، خاصة فى فترات الحروب الكبرى، أو فى أمريكا اللاتينية و ايضا فى المنطقة العربية، ويعد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر نموذجا بارزا فى هذا الاطار . ولذلك فإن مفهوم الشعبوية لا يعنى التزاما أيديولوجيا معينا، فهو ليس مقصورا على مدرسة فكرية محددة، و لكنه أسلوب يتبناه قائد أو زعيم فى أوقات معينة أيا كانت انتماءاته السياسية . كذلك «الناصرية» الكلمة المشتقة من اسم جمال عبد الناصر، فهى ليست أيديولوجية فى ذاتها، وإنما هى تعبر عن تجربة محددة عاشتها مصر فى الخمسينيات والستينيات، وكان لها ثلاثة شعارات شهيرة «الحرية، والاشتراكية، والوحدة» فى مواجهة قوى الاستعمار والطبقية و التجزئة فى العالم العربى ككل. وهذه الشعارات الثلاثة مستمدة من مدارس فكرية مختلفة أى من الفكر «اليسارى» والفكر«القومى العربى»، الذى ترجع جذوره إلى أواخر سنوات الإمبراطورية العثمانية كتعبير مختلف عن الهوية مبنى على فكرة «العروبة»، التى جسدتها الثورة العربية الأولى أو الكبرى إبان الحرب العالمية الأولى بقيادة الشريف حسين حاكم مكة وقتئذ. وفى سياق الحركة القومية العربية ظهرت اتجاهات فكرية مختلفة كما هو معروف منها ما سمى «بالاشتراكية العلمية» أو «القومية الاسلامية» أو «الاتجاه التقدمى الاشتراكى» أو «الاتجاه الوسطى» الذى مثله التيار الناصرى بأحزابه المختلفة. وبغض النظر عن هذه التفاصيل، فان كثيرا من المبادئ والأهداف التى تبنتها التجربة الناصرية تعثرت على أرض الواقع، إلا أنها ظلت حلما رومانسيا يراود الكثيرين حتى الآن . وبالتالى فان الحديث عنها كأيديولوجية متماسكة أو نظرية سياسية هو أمر غير دقيق. فإعادة إنتاج الفكر الاشتراكى بأسلوبه القديم يحتاج الى اجتهاد هائل، خاصة مع انحسار التجارب الاشتراكية العالمية وانفتاح الكثير منها على اليات السوق وفي مقدماتها روسيا والصين، وبنفس المنطق فان قضايا الوحدة العربية التى شكلت تحديا كبيرا حتى فى أوج ازدهار التجربة الناصرية مثل (فشل الوحدة المصرية السورية، وخسارة حرب اليمن، وبعدهما فشل محاولات الاندماج الثلاثى بين مصر و سوريا وليبيا) لاشك أنها باتت تشكل تحديا أشد صعوبة وضراوة فى الوقت الراهن. إذن وباختصار، ليست هناك معركة أيديولوجية حقيقية فى الانتخابات الرئاسية، فما يطرح حول «الناصرية» هو مبادئ عامة مشتركة تعد جزءا من الخبرة السياسية المصرية وميراثها المتجذر فى أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة وبين قطاع كبير من النخبة والرأى العام، ولا تعد حكرا على طرف دون آخر. وفى النهاية فان الواقعية السياسية ستفرض نفسها على الجميع، سواء بالنظر الى الخيارات الداخلية خاصة الاقتصادية، فليست هناك معركة كبرى مثلا بين توجه يمينى رأسمالى وآخر اشتراكي، والمعروف أن خيارات اى مرشح ستكون دائما فى المنتصف، أو بالنسبة للتوجهات الخارجية الدولية والإقليمية، وتلك الخاصة بالالتزامات والمعاهدات، فإعلان حملة صباحى إلغاء اتفاقية السلام هو أمر سهل يصلح كشعار لن يكلف شيئا، ولكن من الناحية الفعلية فان الأمر سيختلف كثيرا . إن مصر فى هذه المرحلة الصعبة التى تمر بها لا تحتاج الى شعارات ومزايدات انتخابية غير قابلة للتطبيق، بقدر حاجتها الى رؤية واقعية لمشاكلها الفعلية تعيد بناء الدولة ، التى اقتربت - بحكم تدهور أدائها على مختلف المستويات خلال السنوات السابقة من تصنيف الدول «الفاشلة» غير القادرة على الوفاء بالتزاماتها ووظائفها العامة، خاصة فى مجال التنمية والخدمات وتحسين الاحوال المعيشية والاجتماعية بما يعيد للطبقة الوسطي اعتبارها. أى تحتاج إلى دفعة تنقلها الى المستقبل وليس إلى الوقوف عند التجارب الماضية مهما كانت جاذبيتها، فالماضى لا يُستنسخ . ولأن المشير السيسى هو المرشح الأوفر حظا للفوز بحكم جماهيريته التى اكتسبها منذ 30 يونيو، فان التوقعات منه ستكون أعلى، وينتظر أن يكون برنامجه هو الأكثر واقعية. وفى هذا السياق استوقفنى مقال للكاتب الكبير صلاح منتصر نشر بجريدة «المصرى اليوم» بتاريخ (15/2/2014) بعنوان «نريد السيسى مهاتير لا السيسى عبدالناصر» وهو جدير بإعادة القراءة . لمزيد من مقالات د . هالة مصطفى