مازلت أتذكر ذلك اليوم الذي كان يدرّس لنا فيه المرحوم الدكتور نصر أبو زيد كتاب عبد القاهر الجرجاني "أسرار البلاغة"، وبينما أنا شديد التركيز لأفهم شيئًا مما يقوله عن عبد القاهر الجرجاني وعظمته ودوره في تاريخ البلاغة العربية فإذ بصديق لا أعلم أين هو الآن، يبتسم لي خلسة، مشيرًا في كتابي لأحد الأبيات التي يستشهد بها الشيخ عبد القاهر الجرجاني. هذا البيت يقول: وعش حمار تعش سعيدًا فإن السعد في طالع البهائم كان صديقي هذا شديد الذكاء بل وشديد التميز في كل فنون اللغة العربية، من نحو وصرف وعروض وبلاغة ونقد، لكنه كان شديد اليأس مما يدور حوله، فكان أن قرر أن يتحامق على الجميع حتى يعيش سعيدًا، فلم يكن يغضب لشئ أو من أجل شئ إلا أمامي، كانت نصيحته أن أتحامق حتى أعيش سعيدًا مثله. لماذا أتذكر صديقي هذا الآن؟ أتذكره لأنني أريد أن أمُسك باللحظة التي يُقرر فيها شخص شديد النبوغ والتميز أن ينكر على نفسه، عقله ويتبرأ من ذكائه ويلعن تميزه ويبذل جهدًا كبيرًا من أجل أن يبدو متجانسًا مع سياق عام يعادي العقل ويحابي الحمق. هل تلك اللحظة عابرة؟ هل هذا الشخص مجرد حالة فردية؟ أم أنها لحظة ممتدة ومتجذرة في ثقافتنا ولها مسوغات كافية لإقناع الكثيرين بأن التحامق فضيلة؟ لم يرد لفظ العقل في القرآن الكريم مرة واحدة، بينما تكررت الدعوة لإعماله تسعًا وأربعين مرة، والمثير للانتباه أن المرة الوحيدة التي ورد فيها لفظ العقل في الأحاديث النبوية كانت في حديث أبي سعيد الخدري المذكور في صحيح البخاري(116/1) وصحيح مسلم (86/1)عن ناقصات العقل والدين، أي أنه حديث عن نقص العقل الموسوم به النساء، وليس عن العقل الموسوم به غيرهم. ومن المهم هنا أن نتأمل معنى أن يكون نقص العقل مكافأته نصف شهادة، والعقل الكامل عند الرجال شهادة كاملة، فارتباط العقل بالشهادة أمام القضاء يجعل المعنى الأقرب للعقل هنا هو ما نعنيه بالضمير أو الأخلاق. ولا نود ان نثير الجدل هنا حول العلاقة بين النوع الاجتماعي والأخلاق أو الضمير لنتفق أو نختلف مع تفسير الحديث بهذا الشكل أو ذاك، لأننا نود ان نمسك باللحظة التي يكفر بها إنسان ذكي متميز بعقله ويقرر أن يتحامق ليسعد. لاشك أن الشعر العربي احتفى بالعقل على مر العصور لأنه ما يميز الإنسان عن الحيوان، وهو ما أشار إليه المتنبي بأن شرف الإنسان في عقله، ولولاه لكان أصغر أسد قادر على العض(وهو الضيغم) أشرف منه. لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرفٍ من الإنسان ولهذا كان ناتج العقل -والمتمثل في الرأي وليس أي شئ آخر- يفوق في القيمة والأولوية شجاعة الشجعان. الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني وهذاالشرف العظيم للعقل هو ما يجعل المتنبي أكثر استعدادًا لتقبل فكرة إصابة جسده بالأمراض من فكرة أن يُصاب عقله بالمرض، فأمراض الأجسام لها شفاء يُسهم العقل في الوصول له، أما إن مرضت العقول فما جدوى الأجسام التي تحتويها. ولا شك ان الثقافة الشعبية وافقت الشعر العربي في الاحتفاء بالعقل حين جعلا (العقل زينة)، لكن من المهم أن نفهم سر أن يكون العقل زينة. هل لهذا علاقة بالربط بين العقل والأخلاق أو الضمير؟ يقول "ابن دريد" مجيبًا على هذا السؤال: وأفضل قسم الله للمرء عقله ....... فليس من الخيرات شيء يقاربه فزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظورا عليه مكاسبه ويزري به في الناس قلة عقله .......... وإن كرمت أعراقه ومناسبه إذا أكمل الرحمن للمرء عقله .............. فقد كملت أخلاقه ومآربه وإذا كان ارتباط العقل بالأخلاق وثيقًا في ثقافتنا على هذا النحو فإنه يمكن القول إن من الواضح أن ثمة اتفاقًا على أن العقل منتجُ الأخلاق أو الضمير، وبعبارة أخرى الأخلاق تتكون بفضل العقل عند الإنسان العاقل حتى تكاد تصل لدرجة الكمال، بينما تنقص عند الإنسان ناقص العقل ، وتنعدم عند الحمقى. لكن هل انتبهنا إلى أن العقل شرط الأخلاق، وبالتالي تكون معادتنا للعقل معاداة للأخلاق وسحق للضمير؟ لأنه إذا كانت الأديان تكليفات بأوامر ونواة تقوّم سلوكيات الناس استنادًا لأفكار ومعتقدات محددة فإن العقل شرط التكليف، ومعاداة العقل إسقاط لكل تكليف يستند لوازع الضمير عند الإنسان. ولعل هذا ما أشار إليه الإمام علي كرم الله وجهه بقوله: إن المكارم أخلاق مطهرة فالعقل أولها والدين ثانيها يثير الترتيب المنطقي لأولوية العقل على الدين عند الإمام علي العديد من الأسئلة لكن أهمها؛ ما دين الحمقى؟! لكني لا أريد أن أثير الجدل حول المسافة بين أهل الدين الذين بلا عقل وأهل العقل الذين بلا دين وأكتفي بالإنصات لقول أبي العلاء المعري آملًا أن أمسك باللحظة التي يكفر فيها شخص بعقله ويبدأ رحلة التحامق نحو السعادة. اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا دين وآخر ديِّنٌ لا عقل له في دين الحمقى يمكن أن "تربط الحمار مطرح ما يقول صاحبه"، لتهنأ برضا الجميع وتسعد. في دين الحمقى ما عليك إذا وجدت قومًا يعبدون عجلاً سوى أن تحشَّ(تقطع الحشيش) وترمي له. في دين الحمقى لم يعد هناك مكانٌ حتى لما كان ينشده المتنبي. ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم لأنه لم يعد هناك فرصة للشقاء في النعيم لأنه لا مكان لذوي العقل الذين يستمتعون بإعمال العقل وما يرتبط به من عناء وكد وتعب، في دين الحمقى لا شقاوة لذوي الجهالة، بل كل النعيم لهم.لقد تجاوزنا قولك هذا بكثير أيها المتنبي. هل أمسكتُ باللحظة التي يكفر فيها شخص بعقله؟ إنها اللحظة التي لا يكون إعمال العقل متعة لصاحبة، ولا يكون الجهل شقاء لصاحبة! ذلك أن ذوي العقل إذا استمتعوا بتشغيل عقولهم زهدوا فيما لدى سواهم من نعم، ورضوا بشقائهم لثقتهم في أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح! ليس هذا فحسب، بل لم يعد هناك شقاء لذوي الجهالة لينعموا به مؤقتًا، بل النعيم لهم على الدوام ، فما الذي سيشقيهم حتى يدركوا يومًا أنهم من ذوي الجهالة ؟! لقد اختلط هؤلاء بأولئك للدرجة التي جعلت شاعرًا مثل البحتري يقدم لنا تفسيرًا لحالة التحامق التي نعيشها حتى صار التحامق فضيلة الفضائل. أرى الحُلم بؤسا في المعيشة للفتى ولا عيش إلا ما حباك به الجهل.