"تركيا دولة قانون ولها نظامها الدستوري وعلى المقيمين في أراضيها أن يراعو ذلك "، هكذا قال الرئيس التركى رجب طيب أردوغان ، والمعنيون أو بمعنى أدق المقصودون بتلميحاته أكثر من سفير يمثلون بلادهم بالعاصمة أنقرة، والذين لا يغضون الطرف عن ممارسات يرونها غير ديمقراطية اتساقا مع ما هو سائد فى أوطانهم التي تريد تركيا أن تصبح مثلها، ويأتى فى طليعتهم بطبيعة الحال السفير الأمريكي جون باس، وهو مثل سلفه ريكارد ريتشار دوني، الذى لا يترك مناسبة إلا ويوجه فيها انتقادات حادة، حيال القيود الحكومية على حرية التعبير فى وريثة الإمبراطورية العثمانية ومحاصرة الإعلاميين والزج يبعضهم خلف القضبان. ولولا أن الأمر قد يجلب عليه المتاعب، لتوسع أردوغان في كلامه ليضيف عليهم الضيوف الرسميين الذين يفدون على البلاد ، فخلال زيارتهم يجب أن يلتزموا بخصوصية بلاده، وكان المقصود هنا أيضا مسئولا أمريكيا رفيع المستوى هو نائب الرئيس جو بايدن الذي حل ضيفا على البلاد الأسبوع الماضي في إسطنبول . ورغم أن حزب الحركة القومية اليمينى المتشدد رفض تلبية دعوة لحضور لقاء يضم شخصيات من المعارضة وفعاليات المجتمع المدني مع بايدن اعتراضا على وجود رموز كردية ، وهو ما أثلج صدر حكومة العدالة والتنمية، إلا أن مجرد الاجتماع فى حد ذاته آثار امتعاضها واستياءها الشديدين كونه ضم قيادات من حزب الشعوب الديمقراطية الكردي والذي بات الآن في أدبيات صناع القرار وإعلامهم الموالى لهم، مرادفا للخيانة والانفصالية وإثارة الفتن إلى آخره من توصيفات الماضي الذي عاد بدوره بكل تفاصيله، بيد أن أهل الحكم يسعون بجدية إلى اختلاق المبررات والذرائع تمهيدا لإغلاق الحزب، أو على الأقل تحجيمه برفع الحصانة عن زعمائه وبالتالي تهميشه، وبحيث لا يتمكن من اجتياز عتبة ال 10% للتمثيل بالبرلمان، في الاستحقاق التشريعي الذي تعد العدة لإجرائه. ورغم محاولات النفي إلا أن مصادر عديدة أشارت إلى أنه سيتم في خريف العام الحالي. ومما زاد الطين بلة أن بايدن الذي لم يعير ادني اهتمام لتلك الامتعاضات، قام باستقبال عدد من الشخصيات السياسية والإعلامية، معظمهم على خلاف جذري مع أردوغان، منهم الناشطة الكردية البارزة ليلى زانا التي رفضت أداء اليمين الدستورية اعتراضا على أنه لا يمثل أثنيتها. ولم يكتف بإيدن بذلك بل قام بإجراء اتصال هاتفي مع عائلة الصحفي جان دوندار رئيس تحرير "جمهوريت" اليومية، الذى يقبع فى السجن دون محاكمة على خلفية نشره خبرا يكشف تورط المخابرات التركية بإرسال شاحنات أسلحة للمعارضة السورية، وقد توعده أردوغان على الملأ فى برنامج تليفزيوني ، بدفع الثمن غاليا لإقدامه على قصته الخبرية التي وصفها بالملفقة ولم تمض أيام إلا وسيق الرجل إلى محبسه. وخلال المكالمة اثني بإيدن على شجاعة دوندار ، صحيح لم يطلب الرجل صراحة إطلاق سراحه إلا أن المعنى كان واضحا وجليا بضرورة الإفراج الفوري غير المشروط عن الصحفي ومدير مكتب الجريدة في أنقرة ، ونقل المجتمعون عن نائب الرئيس الأمريكي قوله أن حرية التعبير والصحافة هى قيم إنسانية لجميع البشر ولا تخص فقط الولاياتالمتحدة ، وان حرية التعبير هي واحدة من الحريات الأساسية، وهو ما يشير وفقا لما ذكرته صحيفة جمهوريت إلى وجود تباين واختلاف واضح في الرؤى والمواقف بين البيت الأبيض الرئيس أردوغان، فالأول رغم وصفه لمنظمة حزب العمال الكردستاني بالإرهابية ،مشددا على حتمية ترك السلاح ووضع حد لأعمال العنف، إلا أنه لم يبد في الوقت نفسه أي حماس لإيقاف الحوار للتوصل لتسوية القضية الكردية ، بل اعتبره امرًا خاطئًا في انتقاد مباشر لحديث الثاني الذي اكد فيه استبعاد حزب الشعوب الديمقراطية والمنظمة الانفصالية من مفاوضات مسيرة السلام فمع من سيجريها أذن ؟ إشكال آخر رئيسي ساهم فى التباعد الحاصل بين البلدين ويتمثل فى «الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري» الذي لا تعتبره إدارة باراك أوباما امتدادا للعمال الكردستاني، وبالتالي لا يمكن وضعه في نفس الميزان، وانما هو حزب يحارب تنظيم داعش الذي يشكل الخطر الأكبر لا على تركياوالولاياتالمتحدة فحسب بل العالم ككل. وواصل بايدن الإدلاء بآرائه التي امتدت لتشمل أمرا منغصا آخر يتمحور فى الطائفة العلوية داعيا إلى حل مشاكلها من خلال إجراءات سريعة وحاسمة. وتحت عنوان «الولاياتالمتحدة ترفض سياسة أردوغان وحكومته» كتبت صحيفة «سوزجو» أنه وللمرة الأولى ينتقد مسئول رفيع المستوى في إدارة واشنطن الشأن الداخلي التركي بهذه الطريقة وذلك الأسلوب، والمدهش أن هذا تم قبل إجراء مباحثاته سواء مع رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أحمد داود اوغلو . ومضت الصحيفة مضيفة، أن بإيدن أكد بل وأصر على ضرورة استمرار النظام البرلماني السائد بدلا من الرئاسي، لأنه يعلم هو الآخر أن أردوغان تمكن بالفعل من السيطرة على مؤسسات الدولة في مقدمتها السلطات القضائية والأمنية والتعليمية، التي بدأت تعمل بتعليماته، وهذا الأمر سيحول الأناضول إلى نظام ديكتاتوري تستخدم فيه كافة الوسائل القمعية، والذي سيتم تكريسه في حال تحويل النظام الحالي إلى رئاسي آنذاك ستتحول تركيا إلى نموذج سيئ لدول المنطقة وهذا تطور خطير عليها وعلى الدول الحليفة خاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية. وهنا لخص أستاذ العلاقات الدولية حيدر جكماك, عضو هيئة التدريس بجامعة غازي, المشهد قائلا "إن سياسة أردوغان الخاطئة خارجيا وداخليا تدفع البلاد يوما بعد يوم إلى دائرة الخطر ،مؤكدا أن حرية التعبير والصحافة بالفعل موجودة ولكن للصحف الموالية لأردوغان وحكومته لكن عندما تتجه إلى أردوغان وحكومته بالنقد ، سرعان ما ترفع قضايا أمام المحاكم في حق الكتاب والصحفيين أو على حد تعبير الروائية إليف شافاك أصبح كل من ينتقد الرئيس ، خائنًا وعدوًا. وأشار جكماك إلى أن ما يحدث يتناقض تماما مع أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية في عزلة تركيا التي لم يبق لها دولة صديقة في المنطقة وإذا استمرت على هذا النهج حتما سيكون المستقبل غامضًا على كافة الأصعدة .