إذا قُدر لك زيارة قلعة بني سلامة بولاية تاغزوت (تاهرت) الجزائية، فاعلم أنك أمام مدينة تاريخية بامتياز، وكيف لا وهي المدينة التي اختارها العلامة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون، ليكتب مقدمته الشهيرة، مؤسسَا بذلك لعلم الاجتماع. موضوعات مقترحة الفنان التشكيلي منير كنعان.. رائد فن التجريد في مصر| صور حكاية الإنسان والزمان.. أصل الاحتفال بليلة رأس السنة عند شعوب العالم بدء ترميم المركب الثاني لخوفو.. كيف اكتشف كمال الملاخ «مراكب الشمس»؟| صور لكن المزار الأكثر شهرة في القلعة هي "خلوة ابن خلدون" أو "مغارات ابن خلدون"، وهي عبارة عن ثلاث مغارات تقع في قلعة بني سلامة المعروفة بتاغزوت بمنطقة فرندة التابعة لولاية تيارت أو تاهرت الجزائرية عاصمة الدولة الرستمية (160-296ه/767-909م)، حيث بناها عبدالرحمن بن رستم، أوّل ملوك الدولة الرستمية وجعلها عاصمة دولته، وهي أول دولة إسلامية مستقلة، وقد وصفها المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، فقال: " أحدقت بها الأنهار، و التفَّت بها الأشجار، و غابت في البساتين، و نبعت حولها العيون، و جل بها الإقليم، و انتعش فيها الغريب، و استطابها اللبيب". تقع القلعة بمغاراتها في مرتفعات الأطلس التلّي، على ارتفاع 1260 متراً عن سطح البحر، وعلى بُعد حوالي 400 كيلومتر جنوب غربي العاصمة الجزائرية، وتُشرف على سهول "وادي التَّحت" الخصيبة والممتدة. وفي هذه القلعة ثلاث مغارات صارت تَعرف منذ القرن الرابع عشر الميلادي بمغارات ابن خلدون، أو خلوة ابن خلدون، كما يحلو لبعض المهتمين بتاريخ ابن خلدون وحياته تسميتها، لكن الغريب أن الرجل الذي جاب الآفاق شرقَا وغربًا وتنقل بين الحواضر الإسلامية المختلفة، اخنار هذه المغارة المنعزلة ليؤسس علم الاجتماع، فما الذي دفعه للإيواء لهذه المغارات المعزولة ليَدوّن داخلها أحد أعظم الكتب التي عرفتها الإنسانية؟. في هذه المدينة، أسس ابن خلدون لعلم الاجتماع، وألف كتابه الشهير "المقدمة" حيث دام مقامه بقلعة بني سلامة نحو أربع سنوات (من سنة 776-780ه/ 1375- 1378م) معتكفاً بمغاراتها، بعيداً عن قصور السلاطين وبلاطهم، وعن دسائس السياسيين وصراعاتهم، و خلال هذه الفترة كتب المقدمة (التي هي في الأصل مقدِّمة لكتابه الضخم: "العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب و العجم و البربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر). عاش ابن خلدون في معترك الحياة السياسة متنقلاً بين بلاط الحكام والسلاطين طيلة ربع قرن من الزمان، وصل خلالها إلى ذروة النفوذ وتمكن السلطان في حواضر فاس وتلمسان بالمغرب وغرناطة بالأندلس، حين قرر فجأة أن يدلف إلى المغارة متخلضًا من قسوة الوشايات وأوجاع السعايات. وبعد سنين طويلة ساقه القدر عام 776 ه ناحية أولاد عريف الذي يسيطرون على قلعة بني سلامة، وكان عمره حينها على مشارف الخامسة والأربعين، أي اكتملت لديه التجربة الحياتية وزادتها المشاركة السياسية نضجا، فقر أن يمضي في إنجاز مشروعه العلمي الكبير. كان ابن خلدون يخشى سطوة السلطان أبي حمو، سلطان الزيانيين من اعتزال العمل السياسي، فوسط لديه أولاد عريف حكام القلعة ليطلبوا من السلطان أن يترك ابن خلدون في عزلته الاختيارية التي طلبها من أجل كتابة المقدمة والتاريخ. ورسم ابن خلدون لنفسه منذ ذلك الحين جدول أعمال شديد التكثيف انتوى فيه أن يكتب الطريق من زاوية جديدة وبرؤى جديدة، لم تكن اتضحت بعد في مخيلته، لكنه كان في انتظار الإلهام، وأدرك أن الوحي سيحل عليه ضيفًا في هذا المكان البديع. دام انقطاع ابن خلدون للكتابة والتأليف قرابة 4 سنوات، قاطع خلالها بلاط السلاطين وقصور الأمراء ودسائس السياسيين وصراعات أصحاب الأطماع، وخلال هذه الفترة كتب المقدمة، فقال: "وشرعت تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها (يقصد قلعة بني سلامة)، وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها". لقد ابتكر ابن خلدون طريقة ومنهجاً في كتابة التاريخ، حيث لم يعد التاريخ مجرد تدوين للأحداث بعيداً عن التمحيص الدقيق وتحليل الأسباب والنظر في العوامل لفهم ظاهرة التغير في المجتمعات والأمم، بل أخضع التحولات التي تطرأ على المجتمعات والدول إلى قوانين. لقد جعل ابن خلدون مجتمعات، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، ودول المغرب الإسلامي محلّ نظره ومجال دراسته. ونظراً لحنكته وتجربته العلمية وخبرته في ممارسته للوظائف السلطانية، متنقلاً بين تونس وبجاية وتلمسان وفاس وغرناطة، وعلاقاته الوطيدة بالقبائل العربية أو البربرية، فقد تمكَّن من تجاوز النظرة المحدودة والقاصرة إلى الأحداث كما تجاوز الموقف الذاتي لفهمها. وحتى يستطيع أن ينظر في ذلك، لجأ إلى قلعة بني سلامة مبتعداً عن تأثير السياسيين والسلاطين وأصحاب النفوذ. بعد إتمام تلك السنوات وتحديدًا عام780ه/1379م، أنجز ابن خلدون كتابة المقدمة، وشرع في كتابة تاريخه، لكنه بات في حاجة إلى الدعم الذي يمكنه من المُضي قدمًا في إكمال تاريخه المشهور عن العرب والبربر، فقرر حينها بأن ينهي عُزلته في مغارات بني سلامة التي دام فيها كل تلك السنوات حتى عرفته أحجارها وعرفها، حمل أقلامه وأوراقه وودَّع قلعة بني سلامة، تاركًا فيها بصمة عظيمة، وكت للسلطان أبي العباس الحفصي يطلب منه العودة إلى البلاط والمشاركة مجددًا في الحياة العامة والسياسية. وهكذا غادر ابن خلدون القلعة مودعًا المغارة التي أوحت إليه كتابة المقدمة، تركها ورحل لكن بقيت بصمته واضحة عبر ابتكاره لعلم الاجتماع الذي سبق به كل مفكري وفلاسفة العالم.