لأول مرة في تاريخ الدراما المصرية، نرى عملاً يرصد واقع ما يدور في "سجن النسا" بكل ما يحويه من لحظات ألم وفرح..انتظار الموت في تنفيذ حكم الإعدام، الدوافع التي تجعل بعضهن يقبل على العودة إليه رغم قساوته ومرارته. الخلطة الدرامية التي قدمها فريق عمل مسلسل "سجن النسا"، وجذبت الأنظار إليها منذ الوهلة الأولى نجحت في البعد عن التقليد والسطحية التي قدمتها كثير من الأعمال، واختزلتها في صورة فتيات الدعارة فقط الذين يتربصون بأى فتاة مظلومة تدخل السجن. وليس هذا فقط بل أن الجانب الإنساني في هذا العمل تفوق عن كثير من الأعمال التي حاولت خلق مشاعر مزيفة لها ضمن أحداثها أملاً في اجتذاب قاعدة كبيرة من المشاهدين لها. في "سجن النسا" لا تستطيع أن تفكر في شخصية واحدة فقط، فالجميع يجذبك ويجعلك تفكر في نهايته، وبرغم قساوة ومرارة واقع اكل منهن إلا أن المشاهد يجعل نفسه منجذباً لهذه التركيبة التي انتهت بمشهد مأساوي بعد أن تقوم غالية بالانتقام من صابر ونوارة اللذين اتهماها غدراً بقتل "راضي" حماة "صابر" الذي دخلت بسببه السجن وفقدت ابنها بداخله. "غالية" أو نيللي كريم، فتاة البالية الناعمة التي اختزلها الكثيرون في أدوار الفتاة الجميلة، التي لا تتناسب مع موهبتها التمثيلية المكنونة، تثبت للعام الثاني على التوالى قدرتها التمثيلية الكبيرة بدور يحمل كثير من الصعوبات النفسية والتمثيلية أيضاً، يحمل كثير من التحولات الإنسانية من الفتاة الطيبة المستعدة لفعل أي شىء من أجل من تحبه رغم أنه يصغرها سناً إلى شخصية تخرج من سجنها لتنتقم ممن قضي على حياتها الشحصية والمهنية بعد أن تحولت من سجانة إلى مسجونة، لتقدم نيللي في نهاية الأحداث واحداً من أصعب مشاهدها في هذا العمل، وهي تتحدث مع زوجها قبل أن تقوم بقتله تحمل انفعالات في وجهها ونظرات عينيها التي تمزج فيها بين القوة والانتقام تكسر فيها حاجز كبير من الخوف الذي بدأته في الحلقات الأولى حتى إنها كانت تخشي لمس دماء الخروف بعد ذبحه عندما جاء زوحها صابر به عقب شراؤه للميكروباص، تتمرد على الواقع الذي ظلمها كثيراً، ورغم النهاية المأساوية التي وضعتها لنفسها من حيث قتلها لزوجها وصديقاتها وعودتها إلى السجن مرة آخرى بأرجلها إلا أنها كانت منطقية إلى حد كبير فالظلم لا يولد وراءه سوى الانتقام حتي وإن كان هذا المنطق مخالف للواقع. وعلى مدار ال 30 حلقة في "سجن النسا" اجتهدت النجمة في الاختبار الحقيقي الذي وضعت فيه، لتقدم شخصية "غالية" التي بدي عليها وكأنها متوحدة معها في الحقيقة، نظراً للإحساس المخضرم الذي قدمت به جميع مشاهدها، وكانت صادقة في دموعها وصراخاتها، وفي ضعفها ورومانسيتها. "نوارة" صديقة غالية أو ريهام حجاج الفتاة التي نجحت في خداع المشاهد بمنتهى الصدق، من ظهورها بوجه طيب مع بداية الأحداث في الوقت الذي كانت تكن فيه الشر لصديقاتها وتخطط للتخلص منها، لثبت ريهام هى الأخري موهبتها تجسيد أدوار الشر بحرفية، مبتعدة فيها عن أدوار الفتاة "بنت الذوات". روبي تتألق مجدداً وكأن المشاهد يراها للوهلة الأولى، تقدم دور الفلاحة البسيطة بلهجتها التي غابت عن أذن الكثيرين، وطريقة حديثها العفوية، تنقل من خلال شخصية "رضا" مشاعر مؤثرة ونظرات حسرة بدأت بالمقارنة بين وضعها الاجتماعي ومن تعمل لديهم وحياتهم التي يعشونها لتجد نفسها تقترب منهم دون قصد وتحاول تقليدهم إلى أن تقرر الانتقام من ابنة صاحبة المنزل الذي تخدم به بعد أن قامت بطردها بعد ما تحملته منها من تجاوزها معها، فتقتلها حرقاً ويكون مصيرها الإعدام. قدمت روبي في هذا المشهد واحداً من أصدق مشاهدها جسدت فيها الوجع الذي تكنه بداخلها عقب الجريمة التي قامت بها، تنقل مشاعر الخوف من هول هذا المشهد الذي لم تتوقع أن يكون نهايتها، تحاول اعطاء نفسها لمحة تفاؤل بالتحدث مع من قامت بقتلها متخيلة أنها ستقوم بمقابلتها في العالم الآخر. تبكي "رضا" أو روبي مع رعشة تحيك بملامح جسدها النحيل، ترتعش شفتيها وهي تنطق الشهادة قبل أن تنفيذ حكم الإعدام وعينها تغمرها الدموع، في مشهد يجبرك على البكاء والانتفاضة من روعة وصدق أدائه. درة أو "دلال" يظهر صدق إحساسها في مشاهدها داخل السجن الذي رصد مدى معانتها في هذا الواقع المظلم الذي لم تقصد الدخول إليه برغبتها "عالم الدعارة"، تظهر حسرتها في عينيها التي امتلئت بالحزن من قساوة ومرار الواقع، تحاول طرق باب والدتها وخطيبها من جديد فيغلقونه في وجهها، لتتحول شخصيتها إلى الفتاة القوية التي تستمر بالعمل في مجال الدعارة غير مكترثة بأى شىء، حتي أنها تظهر في مشهد النهاية تدخل السجن للمرة الثالثة بلا مبالاة وكأنها اعتادت عليه. "زينات اللى بتزوق البنات" سجينة آخري ترصد معاناة لطبقة اجتماعية مهدورة ومهمشة، تبدأ بوجه باسم تقوم بتجميل كل نزيلات السجن وتنتهى بمشهد مأساوي يبكي فيه جميع من عاشوا معها بعد أن تنتهي حياتها عقب إصابتها بالفشل الكلوي، وقيام طبيبة بسرقة كليتها الآخرى السليمة. وعلى مدار الأحداث تنجح نسرين أمين بطلة الشخصية في تعليق المشاهد بها نظراً لخفة الظل التي رسمتها لملامح شخصياتها القاتمة والابتسامة التي لم تفارقها حتي في لحظات الموت الأخيرة، لتضع الفنانة نفسها في مهام الأدوار الصعبة التي تخلق فيها إطار جديد لموهبتها التمثيلية. "حنان" أو دنيا ماهر موهبة جديدة قلبت الموازين، قدمت واحدة من أصعب الأدوار حيث تجسيد لشخصية مريضة الوسواس التي تدفعها الظروف المحيطة حولها لقتل زوجها وابنائها الصغار خوفاً عليهم من هذه الظروف، ولعل الصعوبة الأكبر تكمن في الصراع الداخلى الذي نقلته على الشاشة حيث السيدة التي تمتم دائماً مع نفسها وتصمت أمام إيذاء الواقع حولها لكن عقدة لسانها تنفك عقب قتلها لعائلتها وتتحدث بشكل طبيعي من جديد معتقدة بذلك أنها تخلصت من وسواسها النفسي. أما سلوى خطاب فكانت مفاجأة أخرى في هذا العمل، بشخصياتها الصعبة التي ظهرت على مر الأحداث في مظهر السيدة التي تجمع بين الطيبة والقوة تتحدث بطريقة جذابة وتمثل جدعنة السيدة الشعبية، ولكن ليست هذه المفاجأة الوحيدة فقط لكنها تقدم لنا واحداً من أقصي مشاهد العمل عندما تقوم بخدش عذرية "هنادي" الفتاة التي تعيدها للسجن ثانية بعد أن تحاول النيل والزواج من زوجها، تمثل لنا جبروت مرأة وتحولها من السيدة التي دافعت عن هذه الفتاة يوماً ما عندما ارادت احدي السجينات التحرش بها إلى الانتقام الذي يدفعها لايذائها بمشهد وحشي سبق وأنقذتها منه. سلوى عثمان لا يمكن إغفال الأداء الراقي والإحساس المميز الذي نقلته لنا في أغلب مشاهدها، والتي مزجت فيها بين مشاعر السجانة والأم الحنون ل "غالية" التي فضلتها عن ابنتها في احيان كثيرة، ظهرت الفنانة في هذا الدور بوجه لم تطل به على جمهورها من قبل تفاجئهم بمخرونها التمثيلي الذي تم توظيفه خلال كل مشهد ظهرت فيه. مريم ناعوم وهالة الزغندي وكاملة أبو ذكري جنود مجهولين في هذا العمل، وقفوا وراءه ليكون واحداً من أهم وأفضل الأعمال الرمضانية هذا العام، فالأولى والثانية نجحوا في تحويل نص مسرحي مأخوذ عن مسرحية "سجن النسا" للراحلة فتحية العسال، إلى عمل درامي يحتوى على كثير من القصص الواقعية والإنسانية، تظهر المجتمع المصري بفئاته البسيطة بتعمق ووعي كبير، أما كاملة أبو ذكري فهي القائد الأعظم، المخرجة التي لديها أن تخلق من المستحيل مع جميع من يعمل معها، بصورة لا تجملهم في ملامحهم أو تجعلنا نعيش في مجتمع "يوتيبا – المدينة الفاضلة" كل ذلك بعدستها التي تتجول فيها في الشارع المصري وتنقله لنا دون أية رتوش أو تجميل.