إذا قلبنا صفحات التاريخ المصرى العريق لنقرأ سطوره سنجد أن شعبها قد وصف بالشعب المتحمل الصبور وليس الخانع المسالم لأن الشعب الخانع الخاضع هو الذي يستسلم للإهانات والفساد دون أن يصدر منه أي رد فعل ولا ينتوي حتى أن يثور مطالبا بحقه أما الشعب المتحمل للطغيان هو الذي يصبر على الظلم والاستبداد ثم ينتهي به الأمر بانفجار ثورة، يمحو بها معالم الظلم. ونجد ذلك على مدى العصور التاريخية التي مرت بها مصر صابرة على الكوارث والظلمات حتى تتحين الفرصة لتثور على الحكام الطغاة ، وقد ظهرت أول حركة قومية قادها ثلاثى فراعنة الأسرة السابعة عشرة بهدف طرد الهكسوس من مصر بعد أن حكموها أكثر من قرن ونصف القرن وبدأت حرب الاستقلال الأولى هذه حتى سنة 1580 ق.م، فانتهت بالقضاء على فئة من الهكسوس وطرد الباقية على يد الفرعون أحمس الذى أنشأ الأسرة الثامنة عشرة وهكذا كللت بالنجاح والنصر المبين أول حركة ثورية فى مصر على الظالم الغاصب. وتجدد العمل الثورى مرة أخرى في القرنين 7،6 قبل الميلاد فقد غزا الإثيوبيون الوجه القبلى وغزا الآشوريون الوجه البحرى وأخذوا يتقاتلون على أرض مصر ووقف الشعب المصرى متفرجا حتى ضعف الفريقان فانقض المصريون على الإثيوبيين وعلى الآشوريين معا وطردوهم من بلادهم، وعادت لمصر سيادتها فى عهد أبسماتيك الأول عام 650-610 ق.م. ثم واصلت مصر الجهاد للقضاء على الظلم بعد أن احتل الفرس أرضها وضمها قمبيز إمبراطور الفرس إلى إمبراطوريته سنة 525 قبل الميلاد، وظلت مصر خاضعة لحكم الفرس مائتى سنة وسمى المصريون القدماء عهد الحكم الفارسي ب "عهد الويلات" وعمدوا إلى الثورة أكثر من مرة لخلع ذلك العدو الثقيل، وتحالفت معهم الشعوب المجاورة التى غزاها الفرس أو أرهقوها، كالليبيين والفينيقيين والإغريقيين وغيرهم وتم النصر للمصريين فى النهاية فطردوا الفرس ووحدوا دولتهم نتيجة لثوارتهم المتواصلة. وتوالت العصور على مصر حتى فتح العثمانيون مصر بقيادة السلطان سليم سنة 1517 فقابل المصريون هذا الفتح بثورة أرادوا بها المحافظة، على استقلالهم وفشلت الثورة وثبت العثمانيون أقدامم فى وادى النيل ، ولكن بعدها ثار المصريون على الأتراك العثمانيين فى سنة 1589، ثم 1609 و 1623 و 1660 و 1707 ، كانوا يثورون كلما سنحت لهم الفرصة للاستقلال بالحكم، إما بإعطائه لواحد منهم، وإما بإعادة واحد من الحكام المماليك الذين قهرهم الترك والذين كان المصريون يعتبروهم أقرب إليهم من الأتراك. وكان نتيجة ثقة المصريين في المماليك أنهم تنافسوا على السلطة مما أعطى الفرصة للاحتلال الفرنسي أن يدخل مصر عندما أقبل نابليون بونابرت على رأس الحملة الفرنسية سنة 1798 ، ودام الاحتلال الفرنسي ثلاثة أعوام، ثار وقاوم خلالها المصريون مرات عديدة حتى سنحت الفرصة لمحمد على للحصول على السلطة واختار الشعب المصري محمد على حاكما له وهكذا ثار المصريون لكى يجيئوا بمحمد على حاكما عليهم. وثاروا بعد قرن ونصف القرن ليطردوا حفيده فاروق عن العرش، كما عمدوا مرارا فى خلال هذه المدة الطويلة إلى التعبير عن غضبهم أو استنكارهم، لما كان يقدم عليه أفراد الأسرة الحاكمة من أعمال الفساد. وترجمت هذه التحركات في ثورة أحمد عرابى والجيش المصرى، سنة 1881 و1882 وسبب هذه الثورة أيضا، تفضيل العناصر الأجنبية على العنصر المصرى فى الجندية وفى الإدارة على السواء. ومما يثير الدهشة أن المصريين الذين ثارواعلى الترك ليأتوا بمحمد على، ثاروا على حفيده توفيق لأنه كان يفضل عليهم الترك وغيرهم فيخصهم بالوظائف والمناصب والرتب، ولكن الثورة منيت بفشل ذريع لأنها لم تقم على أساس من التنظيم، وأشد منها خطرا كانت ثورة 1800 فى عهد الجنرال كليبر ولمعت فى ثورات مصر على الفرنسيين أسماء: عمر مكرم، ومحمد كريم، والسيد المحروقى، وغيرهم من قادة الشعب وانقض سليمان الحلبى على قائد الفرنسيين في ذلك الوقت الجنرال كليبر وقتله. وقد قامت ثورة عرابى على الخديو توفيق، وتدخل الإنجليز فى شئون مصر بالاتفاق مع الخديو نفسه، فتحولت الحركة العرابية من ثورة على الجالس على العرش إلى ثورة شاملة من الشعب والجيش ولكنها باءت بالهزيمة بمؤامرة تركية - إنجليزية. ولم يسكت المصريون ولم يرضوا بالذل وقامت مصر بقيادة مصطفى كامل للمطالبة بحريتها ولفت أنظار العالم إلى فظائع الاستعمار البريطانى وشاء القدر ألا يعيش مصطفى ليواصل جهاده، فمات فى سنة 1908 وظلت الثورة كامنة فى النفوس حتى أقبلت سنة 1919، فانطلقت مصر بأسرها لتقف وقفة رجل واحد لتخرج الإنجليز وألقت مصر الثائرة فى ذلك الوقت بمقاليد أمورها إلى سعد زغلول. ويمكن القول الآن إن نار تلك الثورة لم تخمد منذ أن اندلعت ألسنتها فى سنة 1919 ، حتى جاءت ثورة الجيش المصرى فى 23 يوليو 1952 ليست غير نتيجة محتومة لثورات مصر خلال آلاف السنين، ضد الغاصب الأجنبى، وضد الحاكم المستبد ففى 23 يوليو 1952، قبض الجيش المصرى على زمام الأمور ليعيدها إلى نصابها، ومرت مصر بفترة حكم الزعيم جمال عبدالناصر الذي عاش فيه المصريون فترة العدوان الثلاثي على مصر عا 1956 ثم انتقلت لعهد الرئيس محمد أنور السادات والذي واجه انتفاضات الشعب المصري تجاه إلغاء الدعم وحركات الإخوان المسلمين ليقود السادات مصر إلى النصر في عام 1973 حينما انتصرنا على إسرائيل وتم إجلاؤها من سيناء. ثم انتقلت السلطة إلى الرئيس السابق محمد حسني مبارك منذ عام 1981 وإعلان حالة الطوارئ وشهد عصره ثورة مجندي الشرطة " الأمن المركزي" عام 1986 وعاش الشعب المصري طيلة الثلاثين عاما في عصر مبارك ليواجه كثيرا من الظلم والطغيان والفساد ونهب أراضي الدولة والإطاحة باقتصادها والبطالة المقنعة وعدم قدرة الشباب على الزواج وغلاء الأسعار والمحسوبية لتولد منها الحركات الشعبية مثل حركة 6 أبريل ومجموعات مقاومة إلكترونية قادها "الفيسبوك" و"تويتر" ضد الاستبداد، حتي نفد صبر الشعب المصري ليعلن في 25 يناير 2011 انتفاضة شعبية شملت جميع محافظات مصر، مطالبة بتغيير الحكومة وانتهت إلى تغيير النظام حتي قضت برحيل مبارك والقضاء على الحزب الوطني لتحقق هذه الثورة آمالا كانت تملأ الصدور وتحقق ما طلبه الشعب، حتى أصبحنا تحت قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومة انتقالية لتقرر وتنفذ مطالب ثورة الشعب التي أبهرت العالمين العربي والغربي لأنها ثورة وصفت بالثورة الحضارية أوضحت لنا أنه على مر العصور الشعب المصري لم يكن بالمتهاون الخاضع لطغيان أي فاسد ولكن رأينا فيما سبق في صفحات التاريخ المصري، أنه شعب متحامل وليس خاضعا، يعرف حقوقه و يطلبها حين يطفح الكيل.