مجد عظيم ينتهي بسيرة درامية حزينة فى صراعاته مع الحياة، ابتسمت له الحياة كما لم تبتسم لأحد قبله، لكنه أدارت له ظهرها فى أخريات أيامه لاسيما بعدما تمرد عليه أحد أولاده، الذي أراد كسر شوكته وإزاحته عن الحكم، اختلاف كبير بين المؤرخين والأدباء الذين تناولوا سيرته، ما بين مؤكد على إصلاحاته واستقلاله بحكم مصر عن الدولة العباسية، وما تبع ذلك من تقدم فى الفنون والطب والعلوم فى عصره، وما بين آخر لا يذكر سوى استبداده ودمويته الشديدة مع معارضيه، ثم موته الحزين وهو يصارع المرض – التى أرجعها بعض المؤرخين بأنها الهيضة-، التى تعرف فى عصرنا ب"الكوليرا".. هذا هو حال أحمد بن طولون الذي تحل ذكرى وفاته فى مايو من كل عام. "بوابة الأهرام" تنشر ما سردته أقدم المصادر التى تناولت سيرة أحمد ابن طولون الذي يكنى بأبى العباس مؤسس الدولة الطولونية بمصر،وأعماله، كما تنشر أرشيفا لأهم الاكتشافات الأثرية التى تم العثور أثناء الحرب العالمية الأولى عن منازل الأيوبيين التى اندثرت تماما، حيث تناول الدكتور زكى محمد حسن الأمين العلمى لدر الآثار العربية بمصر عام 1935م، دراسة عن مصر فى أواخر القرن التاسع الميلادى فى عصر الطولونيين ، كما تناول الحياة اليومية للمصريين فى عصره وأهم أعماله. نشأ ابن طولون فى سامراء "سُر من رأى" التى كانت عاصمة الخلافة العباسية آنذاك، وقدم لمصر فى خلافة المعتمد، حيث دخل ابن طولون مصر واستطاع رغم الدسائس والمؤامرات أن يُثبت أقدامه فى حكم مصر، حتى يعلن استقلاله التام، ويضم بلاد الشام لحكمه، واستطاع بحنكته السياسية أن يخمد عدة ثورات ضده فى الصعيد فى إسنا وأسوان، وأن يواصل أعماله التى خلدها التاريخ منها مسجده الشهير الذي يعتبر دُرَّة الآثار الإسلامية والعربية فى مصر. أسس أحمد بن طولون عاصمة جديدة أطلق عليها "القطائع"، بعد أن ضاقت الفسطاط والعسكر بأهلها، حيث اختار المنطقة القابعة بين جبل يشكر وسفح المقطم فى منطقة مرتفعة، وبنى قصره الضخم وجامعه الشامخ ،ودارا للإمارة بجوار جامعه، وكان بينهما ساحة فسيحة كانت ملعبًا له ولقادة الجيش، كما أنشأ "البيمارستانات"المستشفيات، وقد كان من حظ القطائع أن تندثر، وذلك بعد رحيله بمدة؛ حيث غزت جيوش الدولة العباسية مصر وقامت بتدمير القطائع ولم يبق منها سوى مسجده الذي بناه المهندس القبطى سعيد بن كاتب الفرغاني. أوضح أحمد بن طولون من المهندس القبطى أنه يريد بناء مسجد إذا احترقت مصر بقى وإذا غرقت بقى، وهذا ما حدث، حيث يمتاز المسجد بمنارته العجيبة وعقوده الستينية، ومحاريبه وزخارفه وتقاربه الدقيق فى مساجد سامراء بالعراق التى نشأ فيها أحمد بن طولون، أما المنازل فقد اندثرت ولم يتم اكتشافها إلا فى عام 1912م؛ حيث تسببت أزمة السماد الكيماوي في عام 1912م بمصر وغلاء سعره على تهافت الفلاحين لجمع السماد العضوي فى المنطقة بين كوم الجارح وجامع أحمد ابن طولون. واستطاع الأثري علي بهجت، الذي كان أول مصري يتولى مصلحة الآثار العربية أن يقوم باكتشافات مذهلة فى الفسطاط، فيما واصل الأثري حسن محمد الهواري الاكتشافات بعد وفاته؛ لينشر أبحاثا عن اكتشافات لمنازل منذ عصر الطولونية، وصفت أيضًا أنها أقدم وأغرب دار لاحتوائها على نقوش وزخارف وحديقة ومحاريب صلاة، كما وصفت أنها أفضل وأعظم اكتشاف للآثار العربية والإسلامية في القرن العشرين. وأورد بعض المؤرخين أن أحمد ابن طولون أنجب ثلاثة وثلاثين ولدا منهم 17 ذكرا، وقد خرج ابنه العباس على حكم أبيه ابن طولون وأعلن العصيان على والده، ولما عاد ابن طولون إلى مصر قبض على ابنه العباس وأودعه السجن، حيث مات فى خلافة أخيه خمارويه ، وقد أورد المؤرخون خطابات عدة كتبها أحمد ابن طولون لولده العباس الذي شق عصا الطاعة عليه، حيث تُظهر الخطابات والرسائل أسفه الشديد على مافعل نجله من شق عصا الطاعة على والده . ورغم إصلاحات أحمد ابن طولون العديدة واهتمامه بالعلم والعلماء وبالصناعة والزراعة، ورغم إشادة المؤرخين فى عصره وبعد عصره بسيرته وإنفاقه وعطائه، إلا أنه تعرض لهجوم شديد من المؤرخين الذين وصفوه بأنه كان سفاحًا يبطش بمعارضيه، أما الأدباء فقد وصفه الرافعى فى كتابه وحى القلم:"أن له يد مع الملائكة ضارعة، ويد مع الشياطين ضاربة". وقد اهتم أحمد بن طولون بالعمارة فقد قام بترميم مقياس النيل بالروضة، واهتم بالزراعة والصناعة، وقد بلغت الفنون والعلوم ازدهارا كبيرا فى عصره، وقد أنشأ المستشفى وجعل العلاج للقادرين وغير القادرين، بل جعل هناك ملابس مخصصة للمرضي، وقد كان من حظه أن يموت فى أنطاكيا حيث أصابته "الهيضة"، التى تسببت له فى حمى شديدة ، لم يفلح الأطباء فى معالجته، وهو وباء لم يكن معروفا آنذاك؛ ليموت فى 10 من شهر مايو 884م، ليخلفه فى حكم مصر ابنه خمارويه الذي جهز ابنته "قطر الندي" فى فرح أسطوري لتزويجها من الخليفة العباسي فى العراق، والتى غنى لها المصريون فى تراثهم الشعبى الأغنية الشهيرة "الحنة يا حنة.. ياقطر الندى".