تكتب احترت كثيرًا ماذا يمكنني أن أكتب عن أمي حبيبتي التي رحلت منذ أيام قليلة.. كيف تسعفني الكلمات والعبارات والألم موجع في القلب والنفس؟ مشاعر كثيرة متداخلة يموج بها قلبي.. أحداث وذكريات تنساب أمام عيني بلا توقف.. تتدفق كلها معًا.. كم هو صعب الفراق.. تساءلت هل أكتب عن أمي.. عن تأثيرها في حياتي وحياة أخوتي.. أم أكتب عنها بوصفها ماما جميلة – لقبها المفضل - الرائدة من رواد الكتابة للأطفال؟ هل حقا رحلت ماما جميلة صاحبة الابتسامة العذبة الهادئة والروح النبيلة الراقية.. هل رحلت حقا؟ كلمات التعزية من الأهل والأقارب والأصدقاء وكثيرين غيرهم تبث معها مشاعر وإحساسات كثيرة دافئة.. كلمات تعبر في ثناياها كم كانت ماما جميلة مؤثرة.. كم كان حضورها عظيمًا في حياتهم.. هي الرقيقة الوادعة.. رحلت أمي وتركت خلفها أجيالا تربت على قراءة القصص والحكايات التي كانت تكتبها والتي لا تزال في وجدانهم ونفوسهم.. وتتابع بشغف مجلة سمير التي رأست تحريرها وجعلتها في عهدها مجلة الأطفال الأولى في العالم العربي.. فصارت بهجة وفرحة طفولتهم وأيام صباهم.. فأي أثر عظيم هذا الذي تركتيه يا أمي.. يقولون إن من يعمل في مجال إبداع الأطفال أشبه بمن يلقي ببذور في الأرض.. ربما لن يرى في حياته كل طرحها الطيب.. لكنه من المؤكد أنها سوف تصبح أشجارًا مثمرة.. تذكرت هذه الكلمات وأنا ألمس عبر مشاعر الأصدقاء وهم يحكون عن مدى تعلقهم بمجلة سمير وارتباطهم بأبطالها.. وانتظارهم في لهفة هداياها الصغيرة التي تبعث معها فرحة لاتضاهيها فرحة.. وكيف شكلت كل هذه الأمور وعيهم وساهمت في تكوين شخصياتهم وكيانهم.. فهم إلى يومنا هذا يتذكرون قصصها المصورة وحكايات أبطالها التي لا تزال تعيش في وجدانهم.. فالطرح لا يزال مثمرًا وطيبًا يا أمي.. كانت تجربة ماما جميلة في مجال صحافة الطفل تجربة استثنائية حقًا.. فمنذ أن تولت رئاسة تحرير مجلة سمير عام 1966 بتكليف من أحمد بهاء الدين رئيس مجلس إدارة دار الهلال آنذاك وهي عاقدة العزم على تقديم لون مختلف من مجلات الأطفال.. مجلة عربية في موضوعاتها ورسوماتها.. تقدم من خلالها حكايات مصرية يكتبها ويرسمها كتاب وفنانون مصريون.. فضمت المجلة في صفحاتها قصصًا مصورة لكبار المبدعين: صلاح جاهين.. حجازي.. سيد حجاب.. اللباد.. بهجت عثمان.. سمير عبدالباقي.. مجدي نجيب.. وإلى جانبهم أيضًا فؤاد حداد وإيهاب شاكر وعفت وعدلي رزق الله ونادية فايز.. والمدهش في الأمر أن هؤلاء الفنانين والمبدعين الكبار تحمسوا للفكرة وآمنوا بها.. وكيف لا وهم جميعهم يحملون في داخلهم روحًا مملوءة بمرح الأطفال وحماسهم.. استطاعت ماما جميلة معهم تقديم توليفة ساحرة للأطفال تجمع بين المرح والوعي الوطني والثقافة العامة.. فصدرت المجلة طوال فترة رئاسة ماما جميلة بهذا الشكل المميز والمختلف عن بقية مجلات الأطفال التي كانت تصدر آنذاك.. رؤيتها هذه لصحافة الطفل بلورتها في كتابها: سرقة عقل الطفل العربي.. عبر صفحاتها قرأ الأطفال عن معركة الجزائر وثورة كوبا ونضال إفريقيا.. كانت تقدمها بشكل جذاب من خلال القصص السردية أو الحكايات المصورة ولم يكن هذا الأمر مألوفًا في صحافة الطفل.. إذ كان من المعتاد تقديم حكايات خفيفة.. أو قصص مترجمة تعكس معها ثقافة الغرب. ونجحت التجربة.. وصارت لمجلة سمير شخصية مميزة نالت إعجاب الجميع.. وإلى جوار ذلك تعلق القراء الصغار بأبطال المجلة مثل تنابلة الصبيان.. زغلول أفندي.. عم كندوز.. السلطان بهلول.. باسل.. أدهم وغيرهم من الشخصيات التي أحبها الأطفال كثيرًا.. كانت جميلة كامل تؤمن كثيرًا بتأثير مسرح العرائس على الأطفال الصغار.. لذلك أنشأت فرقة للأراجوز ومسرحًا للعرائس قدمت من خلالها عروضًا ناجحة.. في المدارس والمكتبات العامة كما ترجمت كتابًا ل"جولدبرج" بعنوان مسرح الأطفال، فلسفة وطريقة، يتيح لكل من يهتم بمسرح الأطفال التعرف على النظريات والتجارب العالمية في هذا المجال. كانت حينما تفرغ من كتابة نص مسرحي تظل تراجعه وتعدل من كلماته وعبارته.. وتقول لنا مؤكدة: لا تكفي الرسالة التعليمية في النص.. لابد أيضًا من إدخال البهجة في نفوس الأطفال.. وحينما كانت تتعالى ضحكاتهم أثناء العرض ألمح تلك السعادة التي تطل من عينيها.. وفي النهاية كانت تطرح معهم حوارًا شيقًا.. تستمع باهتمام إلى تعليقاتهم العفوية وتجيب أيضًا عن تساؤلاتهم.. تفعل كل ذلك بحب وإخلاص وتفان فريد.. ولفرط الألفة والمحبة مع العرائس التي ابتكرتها لعروضها المسرحية كانت تضعهم دائما بجوارها يجلسون باحترام على مقاعد غرفة الصالون.. ومن وقت لآخر تأخذ مع شخصية منها صورة فوتوغرافية لتبثها على مواقع التواصل الاجتماعي. إدخال السعادة إلى نفوس الأطفال كان هاجسها الأكبر ورسالتها في الحياة حتى لحظاتها الأخيرة. فمن يملك هذه النفس الصافية الصادقة والمخلصة في زمننا هذا؟