عرفت الناقد رجاء النقاش في دار الهلال، كان عائدًا من الدوحة وكنت عائدًا من جدة.. لم نكن من جيل واحد، هو من جيل الأساتذة، وأنا بمثابة التلميذ، لكنه لم يكتف بهذا الدور، إنما قربني كصديق، وكان النقاش في ذلك الوقت أحد أهم الأسماء في عالم النقد، وكنت قد جلست مع الدكتور غالي شكري في مكتبه بالأهرام، وحاول أن يعدد أسماء النقاد في مصر، فوضع النقاش على رأس القائمة، ووجد صعوبة في استكمال قائمة من عشرة أسماء. وربما هذا حال النقد والنقاد، والسبب من وراء السمة السائدة في الحديث الخالد عن "أزمة النقد" في كل الأجيال، وقال مبدعون حاورتهم إن كل جيل يصنع نقاده، وبتمحيص تلك المقولة نجد أن أفضل جيل أدبي صنع نقاده، أو هكذا أتصور؛ هو جيل الخمسينيات، الذي أضاء الحياة الثقافية في مصر، وقدم مجموعة من أهم الكتاب والنقاد، واستمر فاعلا يمارس دوره في الستينيات والسبعينيات.. ذلك هو جيل رجاء النقاش. كان النقاش يضيء العمل الأدبي الذي يقع تحت يديه، ويفحص أغراضه، ويبين الإمتاع الذي يصنعه، ويعطي دفعة قوية لكاتبه، ولم يكن يهم أن يعرفه على المستوى الشخصي.. هكذا كتب النقاش عن أبوالقاسم الشابي ومحمود دوريش وسميح القاسم والعملاق العربي السوداني الطيب صالح ومحمد المخزنجي، هو لم يكتشفهم إنما أعاد قراءتهم بشكل واعٍ ومتميز، وبالتالي أعاد تقديمهم للقارئ. ولأن النقاش يعرف أهمية صناعة النقد، خصوصًا داخل حركة الجيل الواحد، فقد كتب مقدمة الديوان الأول لصديق مشواره الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي "مدينة بلا قلب"، وهما يتسكعان معًا على أرصفة القاهرة يفتشان عن المستقبل، وأهدى له حجازي قصيدة "إلى اللقاء"، بينما ثلاثة قصائد أخرى على الأقل، مستوحاة من النقاش وعالمه، مما عاشه وتقاسمه مع حجازي، والمثير للدهشة أن تلك المقدمة تظل الأهم في قراءة شعر حجازي بعد ستين عامًا من صدور الديوان. ذلك القرب وتلك المودة لم تجعل النقاش يمنعني من انتقاد حجازي بقسوة في تحقيق كتبته في مجلة المصور، وكان أستاذي وصديقي ومديرًا للتحرير، بعنوان "الصفوة والحرافيش في الثقافة المصرية"، والحق يقال فإن رئيس التحرير الأستاذ مكرم محمد أحمد رحب وهو الصديق الأقرب لحجازي بالتحقيق، وجعله موضوع الغلاف الرئيسي للمجلة، وكان يود أن يرسم لوحة الغلاف الفنان صلاح عناني، لتجمع أكثر من عشرين مثقفًا مصريًا، قالوا رأيهم فيه وأفرد أكثر من ست صفحات. وكان الأستاذ مكرم قد غضب بشدة من الهجوم القطري على الأستاذ رجاء وصل إلى حد محاكمته بسبب نشره مقال السفير والأديب حسين أحمد أمين عن حديث الذبابة في مجلة "الدوحة"، التي جعلها النقاش في مكتبة كل مثقف عربي، وكلف مكرم الأستاذ يوسف القعيد بافتتاحية المجلة ليناشد النقاش العودة من الدوحة فورًا إلى مصر، وكتبها القعيد الذي كان غالبًا ما يكتب الافتتاحية التي توقع ب"من المحرر" تحت عنوان "أرجع يا رجاء". في تلك الأيام كنت قد سافرت إلى جدة للعمل في الديسك لمدة عام في جريدة "عكاظ" مع الزملاء محمد الشبه وكرم جبر ومحمد حسن الألفي وحسن البنا ومصطفى ياسين والصحفي السوداني نور محمد النور، وقمنا مع الزملاء السعوديين بتطوير الجريدة: رئيس التحرير هاشم عبده هاشم، ومدراء التحرير أيمن حبيب ومصطفى إدريس وقينان الغامدي، وبعودة الأستاذ النقاش من الدوحة وعودتي من جدة، اقتربت منه، وبدأت أقرأ له بانتظام مقاله الأسبوعي في "المصور" وطلبت منه المتاح من كتبه. ومع فوز نجيب محفوظ بنوبل وتغطيتي للمناسبة من ساعة الإعلان عن الجائزة حتى استلامها في استكهولم، زاد ارتباطي بالأستاذ رجاء الذي دعاني إلى بيته، في ذلك البيت الجميل في حي الدقي، كان لنا جلسات فتح لي خلالها نافذة الحياة الثقافية في مصر والوطن العربي، كما فتح قلبه وعقله لكي أعرف عنه مشوار حياته وكفاحه على المستوى الشخصي والعام. وفي بيته وبدعوة منه تعرفت إلى الطيب صالح ومحمد الفيتوري والوزير محمد فائق ومحمود سالم وعبدالقادر حميدة وسعيد منصور وحلمي التوني وعبدالمنعم سليم وحازم هاشم وأيمن الحكيم وبلال فضل وغيرهم، وكانت ثقته كبيرة ليتكلم معي بصراحة ومن دون مواربة عن كل من عرفهم واقترب منهم أو ابتعد عنهم، حدثني عن أساتذته خصوصا أنور المعداوي، كما عرفني بالشاعر أدونيس في لقاء مصالحة بينهما، لكنه في هذه المرة كنا في مطعم خريستو في شارع الهرم، هو الذي اختار المطعم ليكون الصلح داخل مشهد الأهرامات العريقة. حكى لي عن حضوره من بلده إلى القاهرة ليلتحق بكلية الآداب، وعما عطل التحاقه بالسلك الجامعي ليكتب الماجستير والدكتوراه، وعن عمله وهو طالب جامعي ثم بعد التخرج، وحكى الآمال والخيبات، التي خرج منها بدرس إنساني عظيم وهو أن يساعد الآخرين من أصحاب المواهب الحقيقية، لكل ذلك ولغيره كان شاعرنا زين العابدين فؤاد منصفًا عندما عنون صالونه الأخير عبر الإنترنت ب"رجاء النقاش.. محاولة رد الجميل" وأشركني فيه مع نخبة من مثقفينا الكبار: شعبان يوسف ود. محمد بدوي وأيمن الحكيم، وأحمد صبري أبوالفتوح.