لا أعتقد أن «مسيرة» الناقد الكبير، وصانع الظواهر الثقافية العظيمة، ومكتشف المواهب الإبداعية المدهشة، والمفكر الأدبى الراحل رجاء النقاش، تم الإحاطة بها بشكل كامل، فكلما عكف الباحث على التنقيب فى مسيرته العطرة، سيكتشف دائما الجديد الذى كان مخبوءا ومستترا تحت جهود متتالية ومبكرة من حياته، منذ أن كان فى بلدته منية سمنود «حارة سيدى عز الدين»، يقرأ ما يجلبه والده الشاعر والمثقف عبدالمؤمن النقاش، هذا الأب الذى كان متصلا بوسائط الثقافة والصحافة فى القاهرة، وكان يراسلهم، وينشر بعض قصائده فى مجلة الرسالة، وهى المجلة الأهم والأوسع انتشارا وتأثيرا فى مصر والعالم العربى. كان كبار الأدباء يفضلون النشر فيها، مقارنة بأى مجلة أخرى، ورغم أن صاحب الامتياز ورئيس تحريرها كان الأديب والمترجم أحمد حسن الزيات، فإنه ترك الناقد والكاتب أنور المعداوى، يدير شئونها منذ أواخر عقد الأربعينيات بشكل شبه كامل، حتى توقفت المجلة فى عام 1953، ولذلك كانت كل الرسائل التى تصل إلى المجلة، موجهة للمعداوى، وكان المعداوى بدوره يتسلم الرسالة، ويكتب بابا تحت عنوان «تعقيبات»، ليرد على رسائل الأدباء. وفى عام 1988 عثر الناقد الراحل على بعض من كنز الرسائل التى كانت موجهة للمعداوى، ومن هذه الرسائل كانت رسالة للشاعر عبدالمؤمن محمد النقاش_والد رجاء_ بتاريخ 2 أغسطس سنة 1949، يبلغ فيها المعداوى، بأن هناك شاعرا يدعى محمد عبدالمنعم الغرباوى، هذا الشاعر لا يقلّ أهمية عن كل الشعراء الكبار، والذين كانوا يملأون الساحة الأدبية آنذاك، هذا الشاعر لديه عزّة نفس كبيرة، تمنعه من أن يعرض قصائده فى تلك السوق المنصوبة، وها هو يتطوع نيابة عن الشاعر، ويرسل له ديوانه كاملا، حتى يتمكن هذا الشاعر من الحصول على فرصة أدبية كريمة. كانت هذه هى الرسالة الوحيدة المنشورة فى كتاب الناقد أحمد محمد عطية للشاعر عبدالمؤمن النقاش، ولكنها كانت البوابة الملكية التى دخل منها الابن رجاء إلى عالم الصحافة، وراح الابن يراسل الناقد الكبير، ويناقشه فى قضايا كانت مثارة بقوة آنذاك، وكانت الرسالة الأولى تنطوى على قدر كبير من الإعجاب بالناقد الكبير، ويبدؤها رجاء بقوله: »سيدى الناقد الكبير الأستاذ المعداوي تحية قلبية وبعد.. من الحقائق التى يعلنها ميزانك الحساس (الأداء النفسي)، ولا ينكرها أديب ولا متأدب أنه يجب على دارس أصحاب المواهب أن يضع يده على (مفتاح الشخصية الإنسانية أولا ومفتاح الشخصية الأدبية ثانيا)، والربط بعد ذلك بين الشخصيتين، لينفذ إلى أعماق الحقيقة فى الحياة والفن ومدى التجاوب بينهما، منعكسا على صفحة الشعور المعبر عنه فى كلمات..»، ويسترسل رجاء فى وصف تأثره بمنهج الأداء النفسى الذى أسّس له المعداوى، خاصة فى دراسته عن الشاعر الرومانسى على محمود طه، وفى الرسالة يخبر رجاء أستاذه المعداوى، بأنه أعدّ دراسة عن بعض أعمال الروائى والقاص محمود تيمور، مهتديا بذلك المنهج الكاشف والقادر على فكّ ألغاز كثيرة جدا فى الإبداع، والرسالة طويلة، يستعرض فيها رجاء تفاصيل بحثه الذى تقدم به إلى مسابقة الأدب العربى للسنة التوجيهية، وفى آخر الرسالة يوقّع:» رجاء عبدالمؤمن النقاش.. توجيهى سمنود الثانوية». وتوالت الرسائل من رجاء التلميذ المغرم والمفتون، إلى أستاذه الكبير أنور المعداوى، وفى الرسائل يطرح التلميذ الذى لم يتجاوز عمره الستة عشر عاما، قضايا كبرى، منها قضايا الترجمة، خاصة الترجمة التى ينقلها الأدباء عن لغات وسيطة، ويوجه بعض اللوم إلى أستاذه المعداوى، لأنه ظلم المفكر سلامة موسى عندما أبدى بضع ملاحظات حول ترجمة أحمد حسن الزيات «لآلام فرتر» لجوته، والتى ترجمها عن الفرنسية، بينما أشاد بترجمة د محمد عوض محمد ل «فاوست»، لأنه نقلها عن الألمانية مباشرة، ويلفت رجاء نظر المعداوى، إلى أن يعيد قراءته لملاحظات سلامة موسى، ويكتب عن هذا الأمر مرة أخرى، وفى كل ذلك كان رجاء يستعين بكتب ومراجع لطه حسين وغيره، مما يدلّ على أن رجاء كان قارئا نهما وذكيا وشغوفا بالاطلاع فى ذلك الوقت المبكر، وهذه الرسائل النادرة، تدلّ على الخلفية الثقافية التى ارتكز عليها رجاء منذ بواكيره الأولى. من هنا نستطيع أن نقول إن رجاء النقاش بدأ كبيرا بالفعل، وكان الحوار الذى دار بينه وبين أنور المعداوى، وتوجيه التلميذ بعض الملاحظات لأستاذه، كان سببا لإعجاب الأستاذ بذلك التلميذ المثقف، وعندما التحق التلميذ بكلية الآداب عام 1952، وجاء إلى القاهرة ليزور أستاذه فى المجلة، ولم يجده، وكان رجاء يمر بحالة إحباط عاصفة، للدرجة التى يقول له فيها:»..كل حياتى، دمع داخلى اختلط بدمى، وجنازة شعورية شهيدها حب كبير، وكبرياء تنزف ضعفا وهوانا على نفسى وعلى الناس، لم يعد بينى وبين الحياة ما يربطنى بها إلا أنت..»، وهكذا تتواتر العبارات العاطفية فى الرسالة، والتى تعبّر عن حالة عاطفية انتابت الشاب المثقف، والذى يتعرض لحالة عصف وجدانى فى القاهرة، ويوقع الرسالة ب «رجاء النقاش 61 شارع مهدى شبرا مصر». وبعد أن أغلقت مجلة الرسالة، لم تنقطع صلة التلميذ بالأستاذ، بل ظلّت فاعلة بينهما، حيث ان المعداوى أصبح شريكا رئيسيا وضالعا فى إنشاء مجلة «الآداب» البيروتية، ورشح تلميذه للمشاركة فى المجلة، ولم يضع التلميذ الفرصة، فكتب أول موضوعاته بشكل حصرى _كما يقولون_، ونشرته المجلة فى عددها الصادر فى نوفمبر 1953، وكان عنوانه «حول الأدب الديمقراطى.. الأدب المرفوض»، وهو مقال مهم للغاية لشاب لم يبلغ العشرين من عمره، حيث يحلل أشكال الأدب العديدة، وفقا للتجليات الحضارية الفاعلة فى العالم، ويسرد الأسباب العديدة التى تجعل من الأدب تنوعا مذهلا، ويعقّب تعقيبا إيجابيا على دعوة كان قد أطلقها أحد الأساتذة المحترمين فى القاهرة، وهو الدكتور عبدالحميد يونس، وهى أن الأدب الديمقراطى، لا بد أن يكون أدب مقاومة فى الأساس. كانت هذه المقالة الأولى لرجاء النقاش، بمثابة الطلقة المدويّة له فى الحياة الثقافية العربية، وراحت مساهماته الفكرية والأدبية فى مجلة «الآداب» تتطور بشكل مذهل، وفى سنوات قليلة، أصبح رجاء النقاش أحد الكتّاب المرموقين والفاعلين فى تشكيل المشهد الثقافى الأدبى العربى بامتياز، ولم تقتصر مساهمات النقاش على تقديم مواد ثقافية ناعمة، بل راح يكتب مالايراه منسجما مع رؤيته الفكرية التى راحت تنمو بسرعة عبقرية بالفعل، ونطالع فى العدد الصادر فى أغسطس 1954من مجلة الآداب تعقيبين حادين، الأول يرد به على د.عز الدين اسماعيل، والثانى يرد به على الناقد والقاص والباحث فى الأدب الشعبى فاروق خورشيد، وكانت لهجة رجاء بدأت تكتسب ثقة وخشونة واضحتين، وظهرت هاتان السمتان فى متابعته لأدب المعركة أثناء العدوان الثلاثى على مصر 1956، وتجلّت فى هذه المتابعة الروح الوطنية العالية لديه، ثانيا تلك الروح العروبية التى ظلّت ترافق رجاء النقاش لآخر لحظة فى حياته. وفى عام 1957 صدر ديوان «الناس فى بلادى» للشاعر صلاح عبدالصبور عن دار الآداب، وكتب له مقدمة مهمة الناقد والشاعر بدر الديب، وكانت هذه المقدمة بمثابة البيان المصرى الأول فى الشعر الحديث، بعدها_فبراير 1959_ نشرت دار الآداب الديوان الأول للشاعر أحمد عبدالمعطى حجازى «مدينة بلا قلب»، وكتب له المقدمة الناقد_بالألف واللام_رجاء النقاش، بعد أن أصبح أحد الأصوات النقدية الكبيرة والمرموقة فى العالم العربى، وصارت مقدمة النقاش مقياسا نقديا لكل مايكتب فيما بعد، وربما لا نبالغ لو قلنا إن هذه المقدمة كانت المرشد الأمين والقوى والصائب لكثير من الشعراء والباحثين فى ذلك الوقت، ولم يكن رجاء النقاش قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره. هذه المقدمة التى فاقت الخمسين صفحة من الكتاب، قلّبت الموازين آنذاك، وراح النقاش يدقّ باب المستقبل بقوة، بعد أن قلّب وفتّش وبحث فى ذاكرة الماضى الشعرية والنقدية، وليعلن أن شاعرا تحوليا ولد بقوة فى الحياة العربية الشعرية، ويبدأ رجاء مقدمته أو بيانه النقدى قائلا: «القصيدة الأولى التى تطالع القارئ فى هذا الديوان هى قصيدة (العام السادس عشر)..ولست أدرى هل هى مصادفة أم أنه شىء مقصود أن تكون هذه القصيدة بالذات هى أول قصيدة فى الديوان.. فالقصيدة تقول لك بوضوح: إن صاحب هذا الديوان شاعر ثائر.. وهى لا تكتفى بهذا القول، بل إنها تزيد على ذلك شيئا هاما: إذ تدلك على أى نوع من الثورة يعيش فى وجدان هذا الشاعر، ويعبّر عنه ديوان (مدينة بلا قلب)». بهذه المقدمة دخل أحمد عبدالمعطى حجازى ساحة الشعراء الكبار والمجددين، وجاءت المقدمة كأحد بيانات الحداثة للشعر الجديد، مما جعل رجاء يقدم خطوات فارقة فى الساحة الثقافية العربية، وإذا كان رجاء اشتهر باكتشافه أو تقديمه لحجازى وللطيب صالح ولمحمود درويش فيما بعد، فإنه كتب مقدمة نقدية مهمة للغاية لمجموعة «أكل عيش» للكاتب مصطفى محمود، وذلك عام 1960، ويعتبر رجاء النقاش هو أول من قدّم مصطفى محمود ككاتب قصة، تلك المقدمة التى تجاوزت الثلاثين صفحة، ولا يذكرها أحد على وجه الإطلاق، وربما لأن مصطفى محمود نفسه تغيّرت وجهته إلى شئ آخر، واشتهر به بقوة، عندما بدأ فى برنامجه «العلم والإيمان»، لينسى الناس تاريخه الأدبى الطويل والمهم، رغم أن النقاش كتب فى نهاية مقدمته لكتاب مصطفى محمود قائلا: «هناك لونان من القصة، قصة تنسينا حياتنا، وقصة تنير لنا تلك الحياة وتساعدنا على فهمها، وقصص مصطفى محمود من النوع الأخير.. إنها تثيرنا وتقلقنا وتنقدنا وتسخر من فهمنا الراكد وتفتح أمامنا طريقا إنسانيا قد يكون شاقا، ولكنه مخلص.. ففيه الحب والابتكار والبعد عن التقليد». لم تقتصر مساهمات رجاء النقاش النقدية على مجلة الآداب البيروتية فقط، بل توزعت بين عدد هائل من المجلات والصحف. انخرط بعد ذلك النقاش فى متابعاته التى كان ينتظرها المثقفون والقرّاء العرب بلهفة كبيرة، وكانت إضاءته الكبرى للكاتب السودانى الطيب صالح، ولروايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، والتى صدرت طبعتها الأولى عن دار الهلال المصرية فى مايو 1969، وصدرت طبعتها الثانية عن دار العودة فى العام نفسه، وهذا عكس ما أشاع كثيرون أن طبعتها الأولى صدرت عن بيروت، وكان رجاء النقاش هو الذى ألقى الضوء الأول على هذا الكاتب الذى كان مغمورا، رغم أنه كان يكتب منذ مطلع عقد الستينيات. وما جرى لحجازى ولمصطفى محمود وللطيب صالح، جرى كذلك لشعراء الأرض المحتلة، إذ ان النقاش الذى كان يعمل فى دار الهلال، كان من أوائل الذين كتبوا عن هؤلاء الشعراء فى مجلة «المصور»، وبعيدا عن الكتاب المهم الذى كتبه عن محمود درويش، فإنه نشر أول ديوان لمحمود درويش فى القاهرة، وهو ديوان «آخر الليل»، عام 1969 وجاء نشره ضمن المجلة ذاتها، ليصبح الديوان متاحا بطريقة مبتكرة، وأوسع انتشارا من صدوره فى دار نشر بشكل مستقل، كما نشر ديوانا آخر للشاعر توفيق زياد، وهو ديوان «ادفنوا موتاكم وانهضوا»، بالطريقة ذاتها التى نشر بها ديوان درويش، ومن المعروف أن النقاش كان شديد الحماس لشعراء المقاومة، للدرجة التى أسمى ابنه «سميح» تيمنا بالشاعر سميح القاسم، وكان أكثر الحادبين عليه عندما نشبت معركة بين سميح ورفيقه محمود درويش، ورأى النقاش أن حملة شعواء طالت سميح القاسم، فكتب مقاله الشهير:»ارفعوا أيديكم عن سميح القاسم»، وهاجم كل الأطراف التى تعبث فى المياه التى تم تعكيرها بين الشاعرين، ونشر المقال فى مجلة الطليعة المصرية فى ديسمبر 1974. بالطبع جهود رجاء النقاش النقدية والفكرية والثقافية، تضعه فى السلسلة الذهبية من النقاد الذين صنعوا ظواهر ثقافية، فكل إصدار له، كان بمثابة اكتشاف عظيم، ولا ننسى هنا كتابه البديع «بين المعداوى وفدوى طوقان، صفحات مجهولة من الأدب العربى المعاصر»، وقد أراد رجاء فى هذا الكتاب أن يردّ الاعتبار لأستاذه المعداوى، ونشر سبعة عشرة رسالة كتبها المعداوى للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، ولم يكتف النقاش بنشر الرسائل فحسب، بل عمل على تحليلها نقديا بشكل عميق، وإن كان رجاء قد تعرّض لانتقادات عديدة بنشره هذه الرسائل، وكأنه نشرها رغما عن الشاعرة، ولكن النقاش ردّ على منتقديه برسالة من الشاعرة ونشرها فى مقال له. أما كتابه «عباس العقاد بين اليمين واليسار»، فهو من أهم الأسفار التى حللّت الظاهرة العقادية الفكرية والسياسية والأدبية بحياد تام، وبعيدا عن أى خلافات جيل النقاش مع المفكر الكبير عباس العقاد، وهو كتاب ينمّ عن حيدة النقاش، وابتعاده عن الهوى الأيديولوجى الذى يتحكم فى ذائقة وكتابة النقاد، وربما تكون غضبته فى كتابه «الانعزاليون فى مصر» رد على توفيق الحكيم ولويس عوض وآخرين»، سببها أن هؤلاء اقتربوا من أحد مكونات رجاء النقاش الكبرى، أقصد حصن «العروبة» الذى ظلّ محتميا فيه وبه، وكان يراه الملاذ الأخير للعرب بكافة أقطارهم وتياراتهم المختلفة، أما كتابه عن نجيب محفوظ، فهو حتى الآن من أبدع ما كتب عن نجيب محفوظ. لا تستطيع مثل هذه السطور الإحاطة برجاء النقاش الذى جعل من الثقافة الأدبية مناخا طبيعيا يتنفسه القارئ والأديب والباحث فى وقت واحد، ويكفى أنه يشرف على أى مطبوعة، حتى يحوّلها من مكان مهجور، إلى بيت يحجّ إليه الجميع، ليزدادوا معرفة وحبّا وجمالا.