«ما يقوم به ماكرون قد يكون خريطة الطريق المستقبلية لتيارات يمين الوسط الأوروبية. إنها تجربة تنظر إليها باقى أوروبا بكثير من الاهتمام»…هكذا علقت مجلة «ذى سبكتاتور» البريطانية التى تنتمى ليمين الوسط على قانون «تعزيز احترام المبادئ الجمهورية» الذى أقره مجلس النواب فى البرلمان الفرنسى الأسبوع الماضي، والذى يتضمن طائفة واسعة من التدابير التى تستهدف إنهاء ظاهرة «الجيتوهات» الدينية والثقافية والاجتماعية للمسلمين، ومنع إيجاد مجتمع مواز لمسلمى فرنسا، تنتشر فيه الأفكار الأصولية المتطرفة، التى يغذيها دُعاة أجانب يأتون غالبا من تركياوقطر. قانون «تعزيز احترام المبادئ الجمهورية»، الذى يسمى أيضا «قانون مواجهة الانفصالية»، هو المشروع الرئيسى للرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، لمنع التطرف الديني، الذى عبر عن نفسه خلال السنوات الماضية، من خلال تزايد الهجمات الإرهابية فى فرنسا على دور عبادة، ومدارس، وأسواق عامة على يد شباب فرنسيين، تم تجنيدهم للقيام بعمليات إرهابية ولصقها بالإسلام. وبالنسبة لباقى أوروبا، التى تعانى دول عديدة فيها، من بينها بلجيكا وبريطانيا وألمانيا وهولندا، ظاهرة الجيتوهات الإسلامية، فإن التجربة الفرنسية ستكون محل دراسة لمعرفة تأثيرها للحد من التطرف ودمج المجتمعات الإسلامية بطريقة أفضل، ومعالجة الأسباب التى جعلت تنظيمات إرهاب دولية، مثل «القاعدة» و«داعش» أو تنظيمات متطرفة داخليا، تنجح فى تجنيد الآلاف، وتستخدمهم فى عمليات عنف هزت أوروبا منذ 2015. وستكون التجربة الفرنسية محل مراقبة أوروبية لسبب آخر، وهو أن هناك تباينات كبيرة فى وجهات النظر حولها فى فرنسا نفسها. فقد خرج مئات المتظاهرين فى فرنسا الأسبوع الماضي، ينددون بالقانون على أساس أنه «يوصم كل مسلمى البلاد»، بدلا من أن يركز على الأقلية المتطرفة، وأن القانون فضفاض جدا، ويتدخل فى «جوانب ثقافية» للمسلمين الفرنسيين. لكن الحكومة الفرنسية ردت على الانتقادات بقولها، إن القانون سيحمى غالبية المسلمين الفرنسيين من أقلية متطرفة، تهدف إلى إنشاء مجتمع منفصل ومواز فى فرنسا، تكون فيه القيم متطرفة انعزالية لها الأسبقية على قيم الجمهورية الفرنسية. ويعطى القانون الدولة الفرنسية آليات وأدوات جديدة، للفصل الصارم بين الدولة والدين. فهو سيشدد الضوابط على التعليم فى المنزل، ويلزم بإرسال الأطفال فوق سن 3 سنوات لمدارس الدولة، وذلك للحد من ظاهرة التعليم المنزلى أو التعليم الدينى فى مؤسسات لا تخضع لرقابة الدولة. كما يمنع القانون الكراهية عبر الإنترنت، والتمويل الأجنبى للمؤسسات الدينية الفرنسية بكل أشكالها. ويضع القانون حدا لتعدد الزوجات، والزواج القسري. كما يعطى القانون الحكومة سيطرة أكبر على تمويل المساجد وتوظيف الأئمة، مما يقلل من نفوذ دول مثل قطروتركيا والمغرب العربي، حيث يلعب بعض الأئمة من هذه الدول، دورا فى تعزيز ظاهرة الجيتوهات الإسلامية وزيادة التطرف والعنف. وأدخل القانون، الذى يتكون من 70 مادة، طائفة من العقوبات المشددة، فأى شخص يتبين أنه يهدد أو ينتهك أو يرهب مسئولا منتخبا أو موظفا فى القطاع العام، سيواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات وغرامة قدرها 75000 يورو (91000 دولار). كما سيتم تغريم الأطباء 15000 يورو (18000 دولار) وسيواجهون عقوبة السجن لمدة تصل إلى عام واحد، لتقديمهم شهادات العذرية. أما مخالفو الحظر على تعدد الزوجات، فلن يتم إصدار تصريح إقامة لهم. وسيمتد «مبدأ الحياد» ، الذى يمنع موظفى الخدمة المدنية من ارتداء الرموز الدينية، مثل الحجاب، والتعبير عن وجهات نظر سياسية، ليشمل القطاع الخاص، الذى يقدم خدمات عامة، مثل أولئك الذين يعملون فى شركات النقل. وصوت مجلس النواب الفرنسى لمصلحة القانون بأغلبية 357 صوتا، مقابل 151 صوتا ضده، بعد 135 ساعة من المناقشات التى شهدت اعتماد أكثر من 300 تعديل. وينتظر القانون التصويت النهائى الشهر المقبل، من الغرفة العليا أو مجلس الشيوخ فى البرلمان، حيث من المحتمل إدخال المزيد من التعديلات عليه.
مخاوف تتعلق بالخصوصية وبرغم الترحيب به من قطاعات كبيرة وسط الفرنسيين، هناك قلق لدى قطاعات اخرى. فالبنود العديدة فى القانون، خاصة فيما يتعلق بتعدد الزوجات والزواج القسري، والنظام التعليمى الدينى الموازي، جعل كثيرا من مسلمى فرنسا يشعرون بأنهم مستهدفون بشكل خاص، وأن حرياتهم الثقافية يتم تضييق الخناق عليها باسم محاربة التطرف. ويشعر منتقدو القانون من التيارات الليبرالية واليسارية التقدمية فى فرنسا، بأن القانون ينتهك الحريات الخاصة، وقد يستهدف المسلمين الذين لا علاقة لهم بأيديولوجيات متطرفة. ويجادل هؤلاء بأن أى أيديولوجية إسلاموية قد تقود مواطنا فرنسيا مسلما نحو الإرهاب لا يمكن هزيمتها من خلال «تدابير قانونية»، بدلا من ذلك، يكمن الحل فى خلق ظروف اجتماعية واقتصادية مواتية للمسلمين من قبل الدولة الفرنسية، من بينها الارتقاء بالوضع الاقتصادى والاجتماعى للمسلمين الفرنسيين، الذين يشعرون بالتهميش والتمييز. وتظهر استطلاعات الرأى الفرنسية، أن هناك شعورا سائدا وسط مسلمى فرنسا بالتمييز ضدهم فى العمل والوظائف. كما يشعرون بأنهم أكثر استهدافًا من قبل الشرطة الفرنسية، مما أدى إلى تزايد التوترات بين المجتمعات المحلية والدولة. وخلال مظاهرات مناوئة الأسبوع الماضي، علق أحد المتظاهرين :«الأمر لا يستحق مهاجمة مجتمع بأكمله لأن شخصا واحدا قام بعمل فظيع»، وذلك فى إشارة إلى مقتل مدرس التاريخ الفرنسى صموئيل باتي، خارج بوابات مدرسته فى أكتوبر الماضي، بعدما ناقش فى المدرسة الإسلام وحرية الرأى والتعبير. لكن مؤيدى القانون يقولون، إن مقتل باتى كان واحدا من العديد من أعمال العنف التى ضربت فرنسا فى مدى العقد الماضي، والتى استهدفت دور عبادة ومقاهى وأسواقا شعبية ومنشآت حكومية. لكن الأخطر إلى جانب العمليات الإرهابية، الأفكار المتطرفة التى تنتشر وسط بعض أوساط مسلمى فرنسا، والتى تضع الإسلام فى تضاد مع قيم الدولة المدنية، وتغذى معتقدات مسلمى فرنسا أنهم «ليسوا فرنسيين»، ما يفتح الطريق لتجنيد الآلاف منهم للقيام بعمليات ضد مجتمعاتهم أو الانغلاق فى جيتوهات اجتماعية وثقافية ودينية. وفى دلالة على خطورة انتشار الأفكار المتطرفة، أظهر استطلاع فرنسى للرأى فى يناير الماضي، أن 53% من معلمى المدارس الثانوية قد تعرضوا للتحدى فى الفصل من قبل تلميذ «لأسباب دينية»، و 55 % من المدرسين مارسوا الرقابة الذاتية على أنفسهم لتجنب إحداث توترات مع تلاميذهم المسلمين، عند مناقشة قضايا حساسة مثل حرية اختيار الميول الجنسية. وتزايدت الرقابة الذاتية للمدرسين الفرنسيين منذ مقتل باتي، مع تهديد البعض بمصير مماثل. ففى الأسبوع الماضى نشرت الصحف الفرنسية، أن مدرسة اتخذت إجراءات ضد والد تلميذة قيل بأنه كان عدوانيا تجاه مدرس فى مدرسة ابنته، لأنه لم يرق له أن تجلس ابنته إلى جوار صبى فى الفصل أو المشاركة فى حصة الأنشطة الرياضية، الذى يراه «يتعارض مع دينه». هذه النماذج وغيرها، جعلت كثيرا من أصوات يمين الوسط البريطاني، يعلن دعمه لمشروع ماكرون. فوزيرة الداخلية البريطانية بريتى باتال، تريد أيضا تشديد الخناق على خطاب الأئمة والتمويل الأجنبى للمراكز الدينية، فى إطار الحرب على ثقافة الجيتوهات الإسلامية فى أوروبا. حصار اليمين القومى المتطرف ومن ألمانيا لبريطانيا، إلى فرنساوبلجيكا، هناك قناعة أن أكثر المتضررين من قانون «تعزيز احترام المبادئ الجمهورية» هم أنصار وأحزاب اليمين القومى المتطرف فى أوروبا من ناحية، والمتطرفون الإسلامويون من ناحية أخرى. فالتيارات الإسلاموية المنغلقة فى أوروبا، تريد إبقاء سيطرتها على المجتمعات المحلية، وتصنيف ممارسات مثل الزواج القسرى أو شهادات العذرية بوصفها «خصوصية ثقافية»، وتتخوف من أن تدخل الدولة الفرنسية فى تلك المجالات وتقنينها، هو نزع لسيطرتها على المجتمعات المحلية. أما اليمين القومى المتطرف فى أوروبا، الذى تتغذى شعبيته على مقولات «خطر الإسلام» و«الجيتوهات الإسلامية» و«المسلمون طابور خامس»، فهو الخاسر الثانى من هذه الإصلاحات. ويعد دمج جيتوهات الكثير من مجتمعات المسلمين فى أوروبا فى النسيج العام للمجتمع، وتحسين شروطهم الاقتصادية، واندماجهم الاجتماعى والثقافى والسياسي، أقصر طريق لنزع فتيل التطرف والعنف. وبالتالى تجد أحزاب اليمين القومى الأوروبى نفسها فى موقع صعب، لأنها خلال العقد الماضى بنت شعبيتها على الأرض بخطاب مناوئ لمسلمى أوروبا، والمسلمين عموما. ومحاولات رأب الصدع مع المجتمعات الإسلامية وضمان انخراطها النشيط فى النسيج الاجتماعى -الاقتصادى -الثقافي-السياسي، قد يكون بداية نهاية شعبية أحزاب اليمين القومى المتطرف فى أوروبا. توقيت سياسى بامتياز استغرقت حكومة ماكرون أربع سنوات لصياغة القانون، لكن توقيت تمريره من البرلمان ليس عشوائيا، أنه جزء من مانفسيتو ماكرون الانتخابي. وسيكون الاختبار الأول بين أحزاب يمين الوسط الأوروبي، وأحزاب اليمين القومى المتطرف فى أوروبا، حول علاقة الدولة الأوروبية بالأقليات المسلمة، هو الانتخابات الفرنسية 2022. وسيتسع الاستقطاب السياسى فى فرنسا خلال الأشهر المقبلة، مع اشتداد الحملة الانتخابية. فزعيمة حزب «التجمع الوطني»، مارين لوبان ليس لديها أفكار كبرى بديلة عن ماكرون فى السياسات الاقتصادية، أو قضايا البيئة، أو العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وبرنامجها البديل يدور حول قضايا الهوية والإسلام والمهاجرين. ولمواجهة استغلال لوبان واليمين القومى المتطرف عموما لقضايا الهوية والإسلام والهجرة كوسيلة لجذب دعم الناخبين، تأمل الحكومة الفرنسية، فى أن يثبت قانون «تعزيز احترام أسس الجمهورية» أن أحزاب يمين الوسط (مثل حزب ماكرون) لديها «حل» وليس فقط «شكوى» لظاهرة جيتوهات المسلمين فى أوروبا. وحض ماكرون وزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين، على تشديد خطابه خلال مناظرة تليفزيونية مع لوبان الأسبوع الماضي، وذلك لسحب البساط من تحت أقدام اليمين القومى المتطرف فى أوروبا فى هذا الملف. ومن المتوقع أن يواصل ماكرون نهجه خلال الأشهر المقبلة، فاستطلاعات الرأى تظهر، أن الخطر الحقيقى أمام إعادة انتخابه ليس اليسار الفرنسي، انما أقصى اليمين الفرنسي، وبالتالى لا يجد مناصا من التصدى للقضايا الاشكالية الأكثر إثارة للجدل، التى تستغلها لوبان لنيل دعم شرائح واسعة من الفرنسيين. وفى نظر كثيرين فإن التجربة الفرنسية سيترتب عليها كثير من التداعيات بالنسبة لأوروبا، وعلاقة الدولة بمواطنيها الأوروبيين المسلمين. فالقانون الفرنسى يسعى للتصدى لظاهرة «شيطنة» الأقليات المسلمة فى أوروبا، عبر تجفيف منابع التعليم الموازى أو المساجد والخطاب الدينى الخارج عن السيطرة والممول من الخارج. فلدى فرنسا أكبر عدد من المسلمين فى أوروبا، بسبب الهجرة الكثيفة، بشكل رئيسى من غرب آسيا وشمال إفريقيا، حيث يقدر عدد المسلمين بأكثر من 5 ملايين، فى بلد يبلغ تعداده 67 مليونا. لكن الكثير من مسلمى أوروبا يشعرون بأنهم محاصرون بين اليمين القومى المتطرف من ناحية، وقوانين واسعة فضفاضة تتعامل معهم ككتلة واحدة من ناحية اخرى. وبهذا المعنى، فإن تمرير القانون قد يكون الجزء السهل، لكن الجزء الصعب، سيكون تطبيق القانون بطريقة تضمن استجابة جماعية إيجابية، لوقف تدهور الثقة بين أوروبا ومسلميها.