ختمنا المقالة السابقة عن رعشات الجنوب للروائى السودانى أمير تاج السر، والتى استغرقت منا حتى الآن مقالتين وهذه الثالثة، بهذه الجملة: مازال لدينا الكثير لنقوله عن رعشات الجنوب، والكثير لنحكيه. فهذه الحكاية التى تشبه الدنيا، والمكتوبة فى صفحة قليلة نسبياً، لها كثافة الشعر وقوة العطر المركز، غنية بالمعانى والشخصيات المرسومة ببراعة، المختلفة عنا لكنها تشبهنا. وقد تحدثنا فى المقالتين السابقتين عن الثالوث رابح مدينى وعمبابا ورضيانة الخضر، والثمرة الملتبسة التى جادت بها تلك العلاقة العابرة أيام الصبا: الولد المحيّر الذى يشبههما معاً، والذى سمته رضيانة: الجريح، وموّهت على أصله باسم أب وهمى فعرفه الناس باسم: الجريح سلمان. وذكرنا كم كان يحِن ذلك الفرع مجهول الشجرة لمعرفة جذوره. وتوقفنا عند القول بأن رعشات الجنوب هى إلى حد بعيد رواية عن الحنين، ورعشة قلب المحب أو المُحبة اشتياقاً لامرأة أو وطن أو رجل أو حلم. وحتى الشخصيات الثانوية ممسوسة برعشة الحنين. ففى جوبا - حيث لجأت رضيانة هاربة من أهلها وفى بطنها الثمرة الحرام - قيّض الله لها قلباً يحبها فى صمت ويفتديها بنفسه هى وابنها دون كلمة أو لمسة, لا شيء سوى ارتعاشة الشوق المكتتم، والذى سرى فجأة من يديه إلى الطين والأحجار، وهو من أجل رضيانة مسجون فى زنزانة، فصار ذلك الفتى الجنوبى تايلور، الذى يدعوه الناس تيلا، نحاتاً مبدعاً, حين اعترف بحبه الأخرس لمادة الأرض ولم يبح به لرضيانة، بل عرّض نفسه للسجن من أجل أن يوفر لها ولابنها سبيلاً للرزق. وحين خرج من السجن وكبر الجريح طلب منه الولد أن يتزوّج من أمه، فهرب تيلا بعشقه الصامت لرضيانة التى تنتمى لعرق عربى مسلم، وهو الزنجيّ الوثنيّ، وساح تايلور فى العمق الإفريقيّ مخاطباً الطين والحجر بمزيد من رعشات الحنين، فصارت له فى النحت شهرة عالمية. وقابله عمبابا صاحب السيرك فى مقهى بنيروبى يسميه تاج السر فى روايته مقهى الحنين، لأن كل النفوس المهاجرة المشتاقة, من كل الجنسيات والأجناس التى ساقها القدر إلى كينيا, تلجأ إليه وتتناول فيه المشروبات والمأكولات الوطنية وتتساقى مع بنى جلدتها الأشواق والذكريات. وفى نفس المقهى التقى عمبابا بعد الغنى باشاكر، ذلك السودانى من أصل حضرمي، الذى يشبه فى ملامحه الأتراك، وينتمى لأسرة موسرة فى الخرطوم، وكان يشغل وظيفة مرموقة فى أحد البنوك، لكنّ حبه للمال أغراه باختلاس مبالغ ضخمة وتحويلها للخارج، وحين انكشف أمره هرب من وطنه وترك أسرته وأولاده وصار مجرماً دولياً يطارده الإنتربول، وفى فراره من بلد إلى بلد أنفق كل ما اختلس، وأخيراً صار فى نيروبى شحاذاً يبكى اشتياقاً وندماً فى مقهى الحنين، وهناك التقطه عمبابا وسخّره فى خطته الشيطانية للانتقام من صديقه رابح الذى احتقر عرضه بأن يتشاركا فى الأعمال. استغل عمبابا ملامح عبد الغنى باشاكر التركية ليضمه لسيركه منتحلاً شخصية ساحر تركى عالمى اسمه ندمان قل, وليلعب من خلاله على نقطة ضعف رابح مديني، وهى رعبه من الموت وتصديقه المطلق لنبوءات العرافين. وفى يوم مجيء السيرك لمدارى كما هو معتاد كل عام، قدّم عمبابا لجمهوره الساحر العالمى المزيّف ندمان قل، بعد أن لقنه بعض أسرار أهل المدينة ليبهرهم بمعرفته المزعومة بالغيب، وأنهى الساحر فقرته بمخاطبة رابح, مؤكداً له أنه سوف يموت خلال أيام أو ساعات. وبقوة الإيحاء, والرعب من فقدان حياته السعيدة, يموت رابح - كما كنا قد حكينا - قتيل الوهم. وبعد، مازالت رعشات الجنوب ثرية بأشخاصها وحكاياتها، فهى تحتاج، على قصرها، دراسة لا بضع مقالات. ولهذا أدعو قرائى الأعزاء بشدة أن يقرؤوا بأنفسهم ويستمتعوا.