تابعت مثل غيرى من ملايين المصريين اجتماعات الرئيس عبدالفتاح السيسى، واهتمامه بموضوع تطوير القرية المصرية. تحديداً 1000 قرية مصرية. وعندما نعرف أن مصر بها أربعة آلاف قرية. فالرقم المرشح للبدء به يتجاوز ربع عدد القرى. وهو ما يعنى ثورة حقيقية تحقق حلماً قديماً جديداً ألا وهو إعادة بناء الريف المصرى. القرية لها رسالة ولولاها ما كانت مصر. وعند النظرة الأولى نكتشف أنها أمدت البلاد عبر تاريخها الطويل بما يمكنها من الاستمرار. ومقاومة غول الاستيراد. بل الوصول إلى حلم التصدير. أى أن القرية وحدة إنتاجية متكاملة الأركان. عند النظرة القديمة كنا نقول إن القرية مزرعة البلاد والعباد. ولكن من يذهب إلى القرية الحديثة يكتشف أنها أضافت للمزرعة الكثير من الصناعات المرتبطة بالزراعة. وأن بعض القرى تصدر للخارج مباشرة مما تنتجه. وهو ما يجسد روح الشخصية المصرية منذ القديم وحتى الآن. القرية لم تقدم المنتجات الزراعية فقط. سواء التى تباع بصورتها الخام كما خرجت من الأرض. أو تلك التى يجرى تصنيعها. المهم عندى أنها كانت تكفى سكانها وأعدادهم ليست قليلة. بل إن بعض القرى يعيش فيها آلاف من السكان الآن. لا تقوم المنتجات الزراعية سواء بشكلها الذى خرجت به من الأرض, أو بعد تصنيعها وتجهيزها, حتى تكون صالحة للاستخدام الإنسانى بأقل تكلفة ممكنة, ولكنها تلعب أدواراً أخرى تنطلق من حلم الاكتفاء الذاتى. وفى قريتى عندما كانوا يتهكمون على فلاح يقولون إنه يأكل من عيش البنادر وفعلاً عندما تراجعت الزراعة فى زمن الانفتاح الاقتصادى بدأ كثير من القرى فى الاعتماد على ما يمكن أن يأتى إليها من المدن المجاورة. التى هى فى الأغلب الأعم المراكز والبنادر التى تتبعها هذه القرى. إلا أن دوام الحال من المحال. فقد جاءت أجيال على القرية اكتشفت أن الخلاص يكمن فى الهروب منها إلى المدن القريبة أو البعيدة. ويا سلام لو استطاع هذا الهارب أن يجد لنفسه مكاناً فى مصر أم الدنيا. يكون قد حقق مجد عمره وأحلام أهله الذين هرب وتركهم فى القرية. مع أن القرى التى يهربون منها هى أصل كل ما يمكن أن نصفه بالجمال والبهاء والبناء والاعتماد على النفس. قد يقول لى قائل إن ما تكتب عنه قرى النصف الأول من القرن العشرين. وقبله قرية القرن التاسع عشر. وربما قرى العصور الوسطى. وأرد عليه بأن بعض القرى ما زالت كما وجدت. وأرجوك ألا تتصور أن بناء بعض البيوت بالطوب الأحمر. وأن وجود إيريال تليفزيون ليس معناه أن ساكنيه قد تخلوا عن المهمة التى جاءوا من أجل القيام بها, ألا وهى زراعة الأرض واستخراج كل ما يُمكِّن المصريين من الاستمرار فى الحياة من أعماقها. هل نسينا ستينيات القرن الماضى عندما تبارت الصحف القاهرية فى نشر صور الفلاح الذى يركب حماره عائداً من حقله ويسحب بيده اليمنى بهائمه وراءه وباليد الأخرى يمسك راديو ترانزستور يستمع منه إلى الأخبار؟ خاصة الأغانى والمسلسلات وأشهرها مسلسل: ألف ليلة وليلة. الذى كان يذاع من موجة البرنامج العام. فى الخامسة والربع من بعد الظهر. ويستمر حتى الخامسة والنصف. إنها ليست صورة فلكلورية بقدر ما تُعبر عن تطور ما أخذ القرية من زمن الإقطاع إلى قرية صغار المزارعين الذين يزرعون أرضهم بأنفسهم ليقدموا لأهلهم أهم ما يحتاجونه حتى تستمر الحياة فى مسيرتها. هل فكرت يوما فى نوابغ أبناء القرى؟ وقارنتهم بالنوابغ من أبناء المدن؟ لا أريد بهذا خلق تفرقة وحساسيات جديدة. فتلاحمنا يقوينا على ما قد يعترض طريقنا. ولكن لا بد من القول وهذا كلام يخلو من الحساسيات أن معظم النوابغ فى جميع المجالات جاءوا من القرى. ابتداء من السياسة مروراً بالعلماء والكتاب والأدباء وأهل الفن. وهم الذين أصلحوا الحياة المصرية وارتقوا بها خلال تاريخنا الحديث كله. لن أعدد الأسماء وأذكر القرى التى جاءوا منها. لأن هذا موضوع يطول شرحه. ولكن يبدو أن فى مناخ القرية المصرية ما يوفر لأهلها أجواء من الصعب وجودها فى المدن المزدحمة بالناس. والتى لا تعرف الهدوء أو السكون. قلت كثيراً فى مديح القرية المصرية. وهى تستحق أكثر من هذا. ولكن لكل صورة وجهها الآخر. ومهما حاولنا الهروب منه يطاردنا. ولهذا لا أستطيع عدم الإشارة إلى جرح الأمية فى الريف. وهى موجودة بصورة ملحوظة ومهمة. أعرف أن الأمية موجودة فى المدن أيضاً. وأنها ربما كان خطرها أكثر على ساكن المدينة من ساكن القرية. عموماً الأمية خطر داهم. وحلمى ألا يوجد بيننا أمى واحد. ولن أطيل فى الكلام عن الأمية. فنحن نعيش فى زمن الإنترنت وغيره من الأمور المستحدثة التى لا أستطيع كتابة أسمائها. ولن أزيد وأعيد فى حكاية الأمية. ما أكثر ما كتبت عنها. ولكن لدىَّ يقين أننا لو صرفنا جزءاً من جهدنا لتعليم الأميين لفترة من الوقت. نكون قد فعلنا لمصر ما فعله الآباء والأجداد عندما بنوا السد العالى. لقد احتفلنا يوم الجمعة الماضى 15 يناير بميلاد جمال عبد الناصر رقم 103، وهو الذى بدأ رحلة محو الأمية. ولكن المشروع لم يُنفذ كما حلمنا به وتمنيناه. وما زال الملف مفتوحاً فى انتظار من يمكن أن يكمل جهود الماضى بجهاد الحاضر. حتى نحتفل بمحو أمية آخر مصرى. جزء كبير من اجتماعات وأنشطة الرئيس عبدالفتاح السيسى تدور حول تطوير كل ركن فى مصر الآن. وأتمنى أن ينال موضوع الأمية قدراً من اهتماماته. لأنه بقدرته السحرية على تحريك الناس يمكن أن يجعلنا نحتفل بمحو أمية آخر مصرى. يومها ستكون مصر أفضل. رغم أنها توشك أن تقترب من درجة الكمال فى العمل العام. قديماً قالوا أن القرى خلقها الله، وأن المدن بناها البشر.