بعد مفاوضات شاقة وقبيل انتهاء الفترة الانتقالية بأيام قليلة، نجح مفوضو الاتحاد الأوروبى وبريطانيا فى التوصل لاتفاق يضمن الخروج الآمن للمملكة المتحدة من عباءة الاتحاد الأوروبى ويضمن أيضا المصالح الاقتصادية للطرفين من خلال اتفاق للتجارة الحرة، مما يعنى ضمنيًا استمرار بريطانيا فى السوق الأوروبية المشتركة، وبالتالى استمرار تدفق السلع والبضائع بدون أى عوائق أو رسوم جمركية . ووضع الاتفاق الجديد نهاية لمخاوف الشركات البريطانية والأوروبية من تبعات الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى من دون اتفاق قبل انتهاء الفترة الانتقالية فى 31 ديسمبر الجارى والذى كان سيؤدى إلى اضطرابات شديدة على الحدود الأوروبية البريطانية وفرض رسوم جمركية على المبادلات السلعية بين الجانبين . ورغم تلميحات رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون ألأسبوع الماضى باستعداد بلاده للخروج دون اتفاق وإصرار المفوضية ألأوروبية على ضرورة تقديم بريطانيا تنازلات جوهرية للتوصل إلى اتفاق، إلا أن الحفاظ على المصالح الاقتصادية، دفع الطرفين لللإسراع فى إنجاز اتفاق للحيلولة دون تعرض الجانبين لتداعيات اقتصادية سلبية لا تتحملها القطاعات الاقتصادية والشركات فى دول الاتحاد الأوروبى وبريطانيا والتى تعانى كلها من تداعيات جائحة كورونا . ولكن رغم التوصل لاتفاق يطوى صفحة البيركست جانبا إلا أن هناك الكثير من التفاصيل والمسائل الفنية التى لم تتضح معالمها خاصة فى القضايا الخاصة بالدعم والإغراق والخدمات المالية والتى اكتسبت العاصمة البريطانية لندن مكانتها الاقتصادية منها كمركز عالمى للخدمات المالية، فهل ستتخلى عن مكانتها لمصلحة مدن أوروبية أخرى ، وماهى انعكاسات الاتفاق الجديد على الاقتصادات الأوروبية وتماسك الاتحاد الأوروبى مستقبلا ، وما هى انعكاسات الاتفاق الجديد على خريطة العلاقات التجارية الإقليمية والدولية ؟ المحور الرئيسى للاتفاق الأوروبى البريطانى هو إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين بريطانيا – المنفصلة أو الخارجة من الاتحاد الأوروبى – وبين دول الاتحاد الأوروبى – تضمن التبادل الحر أى بدون رسوم جمركية او عوائق غير جمركية مثل الاشتراطات الصحية والمواصفات القياسية لسلع وبضائع تصل قيمتها لأكثر من 600 مليار يورو سنويا ، ويبدأ العمل بهذا الاتفاق من أول العام المقبل، أى مباشرة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية للبريكسيت، وهذا فى مصلحة الجانبين، حيث لن تفاجأ الأسواق والشركات والمستهلكون فى الاتحاد الأوروبى وبريطانيا بأية تغييرات أو اضطرابات فى بداية تطبيق الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى ، ولكن بريطانيا هى المستفيد ألأكبر لأن وارداتها من الاتحاد الأوروبى أكثر من صادراتها وبالتالى ضمنت عدم ارتفاع اسعار السلع الأوروبية بالنسبة للمستهلكين البريطانيين . أما فيما يتعلق بالمصايد البحرية وحرية الصيد فى المياه البريطانية للصيادين من دول الاتحاد الأوروبى فقد توصل الطرفان إلى حل وسط انتقالى يضمن استمرار حرية الصيد لمدة 5 سنوات مع حق بريطانيا فى منع الصيد فى ربع المساحة البحرية الخاصة بها . ولكن قواعد تنظيم المنافسة والحماية والدعم والاغراق والممارسات التجارية الضارة قد تثير بعض المشكلات فى المراحل المقبلة خاصة أن بريطانيا أصبحت بالخروج من الاتحاد الأوروبى فى حل من الالتزام بالقوانين والقواعد الأوروبية الموحدة المنظمة لمثل هذه المسائل ولا تخضع لولاية محكمة العدل الأوروبية بل من المرجح أن يتم تطبيق قواعد منظمة التجارة العالمية عند وجود خلافات ..وربما من الضرورى طرح تساؤلات حول علاقات بريطانيا التجارية الجديدة اقليميا ودوليا خاصة فيما يتعلق بالدول من خارج الاتحاد الأوروبى والتى ترتبط باتفاقات للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبى مثل مصر والمغرب ، هل تحتاج إلى عقد اتفاقات تجارية جديدة مع بريطانيا ؟ وكيف ستتم المعاملات التجارية بين هذه البلدان وبين بريطانيا قبل عقد مثل هذه الاتفاقات ..هل تسرى قواعد الاتفاقات التجارية مع الاتحاد الأوروبى لحين التوصل لاتفاقات جديدة ؟ لم تتضح مثل هذه الأمور حتى الآن أو ربما تضمنها الاتفاق الجديد الذى يقع فى حوالى 2000 صفحة ولكن لم يتم التطرق إليها فى المؤتمرات الصحفية لرئيس الوزراء البريطانى ورئيسة المفوضية الأوروبية الدكتورة أورسولا فون درلاين ..عقب الإعلان عن الاتفاق الجديد. ورغم التفاؤل الحذر فى لندن وبروكسيل وبرلين وباريس عقب الإعلان عن التوصل لاتفاق، إلا أن فى بريطانيا قد تتفجر مشكلات محلية خاصة أن المسئولين فى أسكتلندا أعربوا عن خيبة أملهم من الاتفاق، معلنين بصراحة رغبتهم فى الانضمام للاتحاد الأوروبى كدولة أوروبية مستقلة عن المملكة المتحدة ، فيما ستظل الحدود ما بين الاتحاد الأوروبى عبر أيرلندا الدولة الأوروبية المستقلة والعضو فى الاتحاد الأوروبى وبين جارتها أيرلندا الشمالية وهى جزء من "التاج البريطانى" مسائل حساسة وملغمة مما يمثل تحديات صعبة لحكومة بوريس جونسون بعد نشوة الخروج الآمن الذى يعتبره كثير من البريطانيين انتصارا وعودة للروح البريطانية الخالصة، خاصة أن بريطانيا رغم انضمامها للاتحاد الأوروبى منذ التأسيس، إلا أنها احتفظت بخصوصيتها فى مسألتين مهمتين .. وهما الاحتفاظ بالإسترلينى كعملة بريطانية ولذلك لم تنضم لاتفاقية اليورو أو ما يعرف باتفاقية ماسترخت، والاحتفاظ بالحدود البريطانية يعدم الانضمام لاتفاقية شنجن التى تنظم الدخول للحدود الأوروبية. ولكن مع هذا قد يدفع البريطانيون ثمنا باهظا، إذ من المحتمل أن تفقد عاصمة المال والأعمال – لندن – مكانتها مجبرة لمصلحة مدن أوروبية أخرى، مثل فرانكفورت الألمانية ومع ما يترتب على ذلك من فقد وظائف وسيولة ضخمة يتم إنفاقها فى السوق البريطانية من قبل رجال المال والأعمال . ولكن على أية حال فإن الرئاسة الألمانية للاتحاد الأوروبى قد حققت نجاحا من خلال سياسة النفس الطويل للتوصل لهذا الاتفاق قبيل مطلع عام جديد للحيلولة دون اضطرابات وتداعيات سيئة فى الأسواق العالمية، بينما يترنح فيه الاقتصاد العالمى تحت وطأة أزمة كورونا الخانقة .. فالخروج الآمن أفضل من الخروج العشوائى للجميع .