قصة تبدو عادية وتحدث كثيراً رغم قسوتها في أي زمان ومكان، .. لكن التفاصيل الدقيقة والمشاعر العميقة للأبطال جعلتنا أمام "تحفة فنية" جعلت من الصورة بطلا حقيقيا للأحداث، وبأقل الرموز تم توصيل كلمات ومعاني كثيرة للمشاهد، وكعادة الراحل محمد خان فالأصل هنا الشخصية أكثر من سرد الحكاية لنبدو أمام بورتريه سينمائي بامتياز، ولذلك يعتبر فيلم "موعد على العشاء" من أجمل الأفلام التى تم عرضها في فترة الثمانينات، وربما بعد السطور التالية نكتشف تفاصيل أكثر تجعلنا ندرك قيمة هذا العمل الفني عندما نشاهده مرة أخرى. قصة الفيلم يروى الفيلم قصة نوال "سعاد حسنى" والتى تزوجت من عزت رجل الأعمال "حسين فهمى" وتحلم مثل بقية الفتيات بالحياة الرومانسية وفارس الأحلام الذي يجعلها كالأميرات، ولكنها تصدم بالواقع المرير بأن عزت شخصية متسلطة ولا يهمه سوى عمله فقط، فقد كان فقط يعتبرها جزءً من ممتلكاته، ولم يجد صعوبة فى إقناع أمها "زوزو ماضى" الأرملة التى كانت تعانى من ضعف معاش زوجها، وأرادت أن تضمن لابنتها حياة مترفة بزواجها من رجل ثرى، ولا مانع من استفادتها هى الأخرى، فكانت صفقة بين الأم والزوج، ولم يكن للابنة نوال أى اعتبار، والتى حاولت إن تتعايش مع الحياة الجديدة، وتعطى زوجها حبا، ولكنها طوال 6 سنوات لم تجد سوى التجاهل والإهمال وتعدد العلاقات مع غيرها، وبعد محاولات وافق علي تطليقها مع إقراره لها بنفقة شهرية وكتب الشقة السكنية باسمها، فقد كان على يقين بأنه طلاق مؤقت، وأنها وأمها لن يستغنيان عنه، ولكن نوال رفضت النفقة والشقة، وتدربت على الآلة الكاتبة، والتحقت بالعمل سكرتيرة بمكتب محامى الأسرة "حافظ أمين" وحاولت أن تقترب أكثر من أمها، والتى صارحتها بأنها لم تعد تستطيع تحمل الوحدة، وأنها ستتزوج من رياض "عدوى غيث" صديق والدها بعدما تزوج كل أولاده وأصبح هو الآخر وحيدا، ورحبت نوال بزواج أمها وساعدتها على تجهيزها للزواج، وذهبت بها إلى الكوافير، ولكن والدتها لم تتحمل الفرحة فماتت بمحل الكوافير، وانتهز شكرى "احمد زكى" عامل الكوافير وخريج الفنون الجميلة الموقف وتوجه لمنزل نوال لتعزيتها فى وفاة أمها، وزادت معرفتهما ببعض وتعلقت به خاصة أنه شاب رومانسي وطموح ويحبها بشدة، وعندما علم عزت بهذه العلاقة عرض على شكرى عقد عمل فى الكويت ومبلغ كبير من المال ولكنه رفض، وبالفعل تزوج نوال ثم حصل على محل ليكون كوافير وأتيليه خاصا به، ولكن عزت أرسل بلطجية ليعتدوا على شكرى ثم قام بقتله بعد ذلك في حادث سيارة، فتحاول نوال الانتقام منه وتدعوه في نهاية الفيلم على العشاء وتوهمه بأنها عادت لحبه، ووضعت له السم في الطعام الذي يحبه "المسقعة"، ولكي تبدد أي شك بداخله شاركته في الأكل، وقالت له: إنها اكتشفت بعد موت شكرى أنه لا هي ولا هو يستحقان الحياة، وتوفي الاثنان في النهاية. من نوال؟! في بداية عام 1980 عرض محمد خان فيلمه الروائي الأول "ضربة شمس" بطولة نور الشريف، ومن يعد لهذا الفيلم سيجد مشهداً عابراً في الدقيقة 13 يقرأ فيه "حسين الشربيني" بصوت عال خبراً بإحدى الصحف عن زوجة تقتل زوجها بالسم.. فرد عليه نور الشريف معقباً "مش معقولة فيه ستات بالشكل ده.. ده انتقام رهيب"، وكأن محمد خان أراد بعدها بشهور أن يكشف من خلال "موعد علي العشاء" تفاصيل هذه القصة، وتيترات الفيلم تشير لأن القصة كتبها "محمد خان" .. وفي المشهد الأول عبارة: "إهداء إلي .. نوال"، فمن هي نوال التي استوحى منها خان قصة فيلمه؟! محمد خان نفسه روي إنه قرأ خبراً بمجلة لبنانية عن "فتاة تموت بالسُّم انتحارًا"، والغريب أنه نقل القصة بنفس أسماء أبطالها الأصليين، فالفتاة اللبنانية اسمها "نوال" وكانت تحب شاباً اسمه "شكري" وأرادت أن تتزوجه ولكن أمها رفضت كي تزوجها شخصا ثريا اسمه "عزت"، فقررت أن تنتحر مع حبيبها عن طريق تناول السم في وقت واحد، وبالفعل توفي الاثنان وانتشرت قصتهما، ومن هنا استوحى خان فكرة الفيلم ولكنه أضاف تفاصيل وشخصيات كثيرة.. كما وضع للفيلم نهاية مختلفة، وتحدث محمد خان عن هذا الفيلم وقال: "موعد على العشاء مأخوذ عن خبر قرأته في الصحف في باب الحوادث وبنيت عليه قصتي، وأتناول في هذا الفيلم موضوع الحرية الشخصية للمرأة، وأصل إلى الخلاصة التالية: إن المرأة عندنا لن تتحرر أبداً للأسف، لأنها لكي تصبح حرة فعليها أن تحطم المجتمع وأن تحطم نفسها"! كواليس الفيلم الفيلم مدته نحو 100 دقيقة، وبجانب سعاد حسني وحسين فهمي وأحمد زكي شارك في بطولة الفيلم رجاء الجداوي وإجلال زكي وإنعام سالوسة وأمل إبراهيم وسامي سرحان وحافظ أمين، واللافت أن السيناريست الكبير بشير الديك كاتب القصة والحوار ظهر في مشهد صغير بالفيلم داخل الأسانسير، وأيضاً المخرج الكبير خيري بشارة ظهر في مشهد بأحد المزادات، ومدير الإكسسوار بالفيلم حسين الشريف ظهر كذلك في مشهد بدور ضابط، ورغم أن محمد خان شارك في هذا الفيلم مع معظم أفراد فريق عمله الذين قدم معهم أعمالاً رائعة فيما بعد مثل مهندس الديكور الشهير ماهر عبد النور والمصور الكبير محسن نصر والمونتيرة نادية شكري ومؤلف الموسيقي التصويرية كمال بكير .. لكن من الأسماء المرتبطة بهذا الفيلم نتوقف أمام طاقم "مساعدي المخرج" لأن لكل منهم قصة عجيبة، أشرف أبو النجا كان مشروع مخرج مبهر وخلال 5 سنوات فقط عمل مع مخرجين كبار في أفلام ناجحة مثل "الصعود إلي الهاوية" و "السقا مات" و"طائر الليل الحزين" و"الباطنية" و"الإنسان يعيش مرة واحدة" و"غريب في بيتي"، ثم سافر لدراسة الإخراج في إيطاليا عام 1983 وقدم هناك العديد من الأعمال الفنية منتجا ومخرجا وانقطع عن السينما المصرية، أما مساعد المخرج الثاني "حسين عمر" فقد عمل منذ عام 1958 بأفلام عديدة منها "ليلي بنت الشاطئ" و" خلخال حبيبي" و"شفيقة القبطية" و" أم العروسة" و"الأفوكاتو".. وفجأة أيضاً ابتعد عن السينما نهائياً سنة 1985 ، أما مساعد المخرج الثالث مصطفي جمال الدين فله حكاية أغرب .. فهو من مواليد 1908 أي أنه كان يعمل مساعداً لمحمد خان وهو يكبره بنحو 15 عاماً، وعمل في نحو 96 فيلماً خلال الفترة من 1953 وحتى 2001 .. ومن بينها لم يعمل مخرجاً إلا فيلمين فقط بينما كان صاحب الرقم القياسي ربما في السينما العالمية بعدما عمل كمساعد مخرج في 94 فيلماً ! كما شارك في الفيلم كمصور فوتوغرافي محمد بكر وهو أيضاً صاحب رقم قياسي بمشاركته بعدسته في 771 فيلماً ومسلسلاً وكانت بدايته في فيلم "كدت أهدم بيتي" عام 1954 بينما آخر مشاركاته في مسلسل "بت القبايل" عام 2020 ، وبالتأكيد يظل أبرز كواليس هذا الفيلم هو رفض أحمد زكي قيام دوبلير بدلاً منه بمشهد وجوده في المشرحة، ونام بنفسه في ثلاجة الموتى بعد أن وضع الماكياج المناسب على وجهه، وظل بها حتى حضرت "نوال" حسب المشهد لتكشف عن وجهه وتتعرف عليه بعد أن صدمه زوجها السابق بسيارته، واستلزم المشهد إغلاق الثلاجة عليه، بل وأعيد ذلك المشهد عدة مرات وهو بالثلاجة، وقد قال عن ذلك المشهد قبل وفاته: "أحسست بأن أعصابي كلها تنسحب، وكأنما توقفت دقات قلبي وأنا أحاول تمثيل لقطة الموت، وقد ضغطت على قدمي بشدة لأنبه أعصابي وأنذرها، والطريف أن المشرف على ثلاجات الموتى قال لي : أنت محظوظ جدًا، لأن الثلاجة دي نامت فيها الست أم كلثوم وشاه إيران لما ماتوا". الصمت بطلاً عشاق سينما الثمانينيات لديهم أسباب كثيرة لعشق هذا الفيلم بكل تفاصيله، فهنا لحظات الصمت تعتبر محورية في الأحداث وتفهم منها ربما أكثر من الحوار نفسه، اختيار الأبطال نفسه كان رمزياً.. حسين فهمي بملامحه التي تدل علي الثراء والسيطرة مع الماكياج الذي أوحي بالتسلط.. وملامح سعاد حسني التي تخفي لمحة حزن دفينة.. ووجه أحمد زكي الذي يشبه ملايين الأشخاص العاديين لا يميزهم سوى الحلم والموهبة، مشهد انطلاق الأحداث عندما كانت تقف "نوال" مرتدية فستان الزفاف ثم تقبلها أمها وتتركها.. بينما تقف هى تائهة ومتوترة وكأنها "مخطوفة" رغم أنها تلتقط صورة زفافها وسط صوت دقات البيانو القاسية المليئة بالحزن المكتوم ومشاهد التركيز على عين "نوال" طوال الفيلم كانت أكبر تعبير عن السعادة الزائفة التي كانت تعيشها مع زوجها... ثم الفرحة الحقيقية التي عاشتها بعد طلاقها منه، الرموز في الفيلم كعادة خان لا تنتهي .. "نوال" وهي تقف أمام لوحة الطفلة الصغيرة يقف بجوارها رجل عجوز، فهي ترى نفسها فى هذه الصورة وهو ما يبرر تصميمها على شراء اللوحة وبكائها كالأطفال عندما لم تتمكن من ذلك، داخل الأسانسير وهي محاطة بأشخاص كثيرين ويصل بها الأمر للشعور بالاختناق.. تماماً مثل حياتها المحاطة فيها بكثيرين ولكنها تشعر بالأمر نفسه، مشهد تأملها للبنت الصغيرة التي تلعب تحت مسكنها، عندما أجبرتها أمها أن تحضر عشاء عمل مع زوجها بعد قرارها بالانفصال عنه .. نلاحظ الأجواء بالمطعم من جيتارات وموسيقى وعلى الحائط نجد ملصقين لمصارعة الثيران، تنجذب لهما عينا نوال، وتقرر بعدها مباشرة مغادرة العشاء، وعندما تشاهد الفتاة المعلقة فى شرفة منزلها ما بين السقوط والنجاة.. وعندما تسقط تنطق نوال "ماتت"، سينما خان تهتم بالتفاصيل- ولكن الضرورية فقط - بدون حشو .. مثلاً شقيق نوال الذي كانت تراسله لم يظهر نهائياً.. فنحن فقط نطوف معها في حكايتها، مشهد شكري وهو يصفف شعر نوال بينما دموعها تتساقط وهو يراقبها في حيرة وتساؤل، وربما الصمت هذا هو ما جعل هناك مباراة فنية رائعة في التعبير بملامح الوجه بين سعاد حسني وأحمد زكي .. وفي واحد من أدواره القليلة المركبة حسين فهمي، الإضاءة كان لها دور كبير فى تشكيل الدراما والتعبير عن مغزى كل صورة.. فمثلا المشهد الذى يذهب فيه "شكرى" إلى نوال ليعيد إليها المرآة التى نسيتها فى المحل تجده واقفا بالخارج فاصلا بينه وبينها باب الشقة، تخرج هى لتفتح الباب وشقتها مظلمة قاتمة بينما يقف هو فى النور، وعندما يدخل تضيء هى كل الأنوار فى إشارات واضحة المغزي، لقطات خاطفة تعبر عن معان عميقة تخدم العمل كله، ولذلك مثلاً ظهرت كثيراً "نوال" في مشاهد خلف حواجز وعوائق مختلفة، مثل القضبان وزجاج السيارة أو باب البيت، ومما ذكره محمد خان عن هذا الفيلم فإنه كان من المفترض أن تلتقي البطلة في مشهد مع صديقة من أيام الدراسة بصحبة طفلها، وهذا بهدف إلقاء الضوء على حياة نوال قبل زواجها.. وفي نفس الوقت احتكاك الشخصية بصديقة من الماضي في وجود طفل هي محرومة منه، إلا أن خان بعد المونتاج الأول للفيلم قرر حذف هذا المشهد كاملا، واكتفى بلقطة للبطلة وهي تقود سيارتها بينما تنظر إلى امرأة وزوجها وطفلهما يسيرون على الرصيف، ليعبر عن المعنى المقصود، في المشهد الأخير عندما سأل عزت: "هو الأكل فيه حاجة؟" وردت عليه نوال: "أيوه.. فيه سمّ".. محمد خان قام بتصوير ثلاث لقطات من زوايا مختلفة لهذا العشاء الأخير، وكأنه يريد أن يحاصر الموت المكان كله في مشهد أصبح من كلاسيكيات سينما هذه الفترة، وكما بدأ الفيلم بمشهد يظهر فيه الاثنان في صورة الزواج.. انتهي وصورتهما تحتل كادر النهاية وهي تقول له: "أنت اللي غلبتني يا عزت .. في الأول غلبتني وفي الآخر ضيعتني"، لكن كل هذه الرموز الصامتة لا تجعلنا نتجاهل الحوار البديع الذي كتبه بشير الديك والذي حفظه كثيرون.. وخاصة المشهد الشهير الذي وجهت فيه نوال السؤال لشكري: أزيك عامل إيه؟، فرد عليها: قبل ما تسأليني ولا بعدها؟!. هل استوحت سعاد حسنى نهايتها ؟ فى 21 يونيو 2001 فوجئ ملايين المصريين بخبر وفاة السندريلا سعاد حسنى عقب سقوطها من بلكونة شقتها بلندن، ورغم مرور 19 عاماً مازال الجدل دائراً .. هل كانت حادثة انتحار أم جريمة قتل؟! لكن من الأسئلة التي ستظل بلا إجابة : بفرض أنها حادثة انتحار.. هل استوحت سعاد حسني الفكرة من أحد مشاهد الفيلم؟! فهناك مشهد كانت تقود فيه سيارتها فى شوارع القاهرة، وقع نظرها على خادمة تحاول رمى نفسها من البلكونة، وخلال مشاهدتها لهذه الواقعة، تخيلت نفسها مكانها وبأنها تسقط على الأرض، وهو نفس المشهد الذي تكرر بعد عرض الفيلم ب20 عاماً، وقال محمد خان فى حديث صحفي وقت وفاة سعاد حسنى: "تقابلت معها لمدة عام كامل، كنا نأكل ونتحدث عن الفيلم، كانت مُحبة للأكل، فى النهاية كان كل ما تريد معرفته هو دوافع الشخصية التى تلعبها وأدق تفاصيل حياتها"، أما السيناريست الكبير بشير الديك فيقول: سعاد حسنى كانت فى حياتها الشخصية عادية وطبيعة لأقصى درجة إلا أنها تتحول بمجرد وقوفها أمام الكاميرا، حيث إنها من الفنانين الذين يتقمصون الشخصيات التي يجسدونها إلى حد كبير، وشخصية سعاد كانت تختلف بدرجة كبيرة عن طبيعة شخصية المخرج محمد خان، فالأولى تتمتع بهدوء كبير، بينما خان كان يحاول الانتهاء من تصوير العمل حسب الجدول الزمنى، وهو ما جعل المنتج يخشى حدوث صدام بينهما، إلا أن هذا لم يحدث، لذا فكنت أحرص على حضور التصوير يوميًا، وأصعب المشاهد بالنسبة لسعاد حسنى فى فيلم "موعد على العشاء" كان مشهد التعرف على حبيبها فى المشرحة بعد قتله، وقد ظلت سعاد حسنى لفترة طويلة جالسة فى موقع التصوير حتى تستحضر مشاعرها، وهذا جعل مساعد المخرج يستعجلها، بالرغم من أن المخرج قال لها: افعلى كما تشائين تبعًا لإحساسك، إلا أننا فوجئنا أثناء تصوير المشهد بأنها أغشى عليها بعد أن شعرت بآلام شديدة فى معدتها خلال التصوير بسبب رائحة الفورمالين النفاذة في الثلاجة، وسقطت على الأرض بينما كان الجميع يعتقد أن هذا فى سياق التصوير وليس حقيقة، فقد تعايشت مع المشهد بشكل كبير وانفعلت، وعندما فتحنا باب الثلاجة على أحمد زكي وجدنا وجهه شاحبًا من التوتر وقلة ضخ الدم في جسده".