الكلام ما أسهله سواء كان سطورا علي الورق أو مواعظ ونصائح وفتاوي عبر الأثير وعلى شاشات الفضائيات.. وما أبعد المسافة بين أرض الواقع وبين البيع والشراء في تجارة الأوهام. بالكلام يمكن أن توهم القارئ أو المشاهد أو المستمع أن كل شيء يسير علي ما يرام ثم بعد أيام قليلة يمكن أن تقول عكس ذلك علي الشيء نفسه وأن تصف المشاهد الإيجابية بأنها عنوان للسلبية والتراخي. بالكلام لن يحاسبك أحد عما كتبت أو قلت بعد أن يكشف الناس أن ما روجته لهم من أمنيات ليس صحيحا وأن ما نثرته من وعود طارت في الهواء بعد أن ضلت الطريق.. لكن الأمر جد مختلف بالنسبة لصانع القرار الذي لا يملك في تعهداته والتزاماته ما يملكه أمثالنا من أصحاب الكلام الذين لن يحاسبهم أحد أنهم حشدوا متابعيهم وراء سراب بعيد من الأماني المستحيلة. إن حسابات صانع القرار حسابات معقدة ليس فيها أية مساحة لمغامرات الكتاب وأحلام المفكرين وعلي سبيل المثال فإن أكبر تحد يواجه المسئول الأول في أي بلد هو أن يضمن استتباب الأمن ورسوخ الاستقرار لأن البديل مخيف عندما تحكم الفوضي حركة الشارع ويتحكم الإرهاب في كل مفاصل المجتمع بينما يحق لأهل الكلام أن يزيدوا وأن يعيدوا في محاسن الديمقراطية وقضايا حقوق الإنسان دون ضابط ودون رابط! من حق أهل الكلام أن يحلقوا في السماوات البعيدة بحماسة زائدة تدغدغ المشاعر دون وضع أية خطوط فاصلة بين الأحلام الممكنة والأوهام المستحيلة بينما صناع القرار محاصرون بالشكوك والمخاوف من أي خطأ في الحساب ومن هنا تجيء أهمية أن يمتلك صاحب القرار أعصابا هادئة وقلبا من حديد! إن من حق أهل الكلام أن يناقشوا أي قضية من منظور أنها مجرد فكرة سياسية يمكن التعامل معها بخيارات متعددة في إطار نظرية «فن الممكن» ولكن الأمر جد مختلف بالنسبة لصانع القرار الذي يتحتم عليه أن يتعامل مع أي قضية من منظور أنها في الأساس فكرة اجتماعية تستهدف تلبية احتياجات المجتمع وأحلامه في تأمين الحاضر وبدء السير علي طريق الذهاب إلي مستقبل جديد. ربما يكون القاسم المشترك بين أهل الكلام وصناع القرار أن الأهداف هي نفس الأهداف ولكن اختيار الوسائل هو الفيصل وهو المحك وتلك أمور قد تغيب عن رؤية أهل الكلام بعض دقائقها وخلفياتها التي هي في حسابات صناع القرار أمور يصعب إسقاطها من الحساب أو نسيانها أو التغافل عنها عند اتخاذ القرار. خير الكلام: قوة القرار تنبع من قدرة صانعه علي انتهاج السياسات الصحيحة حتي لو كانت مؤلمة! نقلًا عن صحيفة "الأهرام"